ظلت تنظر إليه وهو مغطى بملاءة بيضاء فى غرفة مديرة المدرسة، كانت تلميذة صغيرة، وكان فى ركن مهمل مكتوب عليه “ممنوع الاقتراب”، وعلى الرغم من توددها لمدرسة الموسيقى لتسمح لها بالعزف عليه إلا أنها لم تلمس أصابعه أبدًا.. بيانو ضخم أصابعه البيضاء المكللة بالسواد تعوم فى ضوء خافت.. ذلك البيانو ظلت حبيسًا في داخلها إلى أن خرج مع شهادتها الروائية التي ألقتها فى قاعة الندوات بالهيئة العامة للكتاب بالقاهرة، حيث أشارت الشاعرة والروائية سهير المصادفة انها تظن أن الشعر يمثل لها هذه المسافة المستحيلة بين أصابعها وأصابع ذاك البيانو فى ركنه المهمل، لعل الحروف تستطيع ملء فضاء العالم بموسيقى لم تسمع من قبل. وتتساءل سهير المصادفة: ما الذى جعلني إذن أحاول ارتقاء درج ليست له قمة، كلما صعدت أجده لا يزال ممتدًا فوقي كمسلة فرعونية تخترق سماء بعيدة؟! ما الذى يجعلنى إذن أدخل محارة ما بعدها محارة – أثناء كتابتى لرواية جديدة – ليخذلنى الشعر مرتين، مرة لأننى لم أستطع وضع العالم كله فى شطر شعرى واحد – كما يفعل الشعراء الكبار – فينتهي أمر هذه الرواية وأمري، ومرة لأن الشعر عاد ليتكىء على صفحات الرواية ورفض الإقلاع عنها. كان على سهير المصادفة إذن أن “تنصهر تحت نيران شاعر يرى أنه أعظم متمرد فى مواجهة العالم، وروائي يحاول أن يعيد بناء هذا العالم.. شاعر لا يمكن محاسبته على شيء فهو طفل العالم المدلل الذي يستطيع ركل الكون في جملة واحدة أو وضع غيمة أو شمس فى جيب بنطلونه، وروائي يحاسب على وصفه لمشاعر شخوصه وطريقة كلامهم وشكل بيوتهم ودموعهم وضحكاتهم وموتهم.. شاعر يستطيع فى كلمتين تحويل الناس إلى طيور مغردة أو مسخ الأسود إلى فئران، وروائي عليه أن يحاصر أحياء سقطت بكاملها من خرائط بعض الدول ومن حفلات شاي المسؤولين”. الآن، تنظر سهير المصادفة إلى أحد أدراج مكتبها حيث يختفي مخطوط روايتها الجديدة.. كلما انتهت من عمل تتطلع برهبة إلى الجبل الشاهق الذي شيده المبدعون، وتلمح على قمته “أوديسيوس” فوق أمواجه العاتية، و”جبلاوي” محفوظ، و"هاملت" يجوب الأفق ذهابًا وإيابًا، و"بطريرك" ماركيز، و"دون كيشوت" ملوحًا بسيفه، و"يسوع" كاز نتزاكي، و"مارجريتا" الطائرة فوق مقشة "بولجاكوف" المسحورة، ومسخ "كافكا" وجولييت المسجاة حبًّا فوق أبيات شكسبير، ومعطف "جوجل"، وكائن "كونديرا" الذي لا تحتمل خفته، والإخوة "كارامازوف" وهم يناقشون الآن بهدوء ماهية الحياة والموت، وكثيرون وكثيرون غيرهم يجوبون القمة التى ينبعث منها عطر مستحيل يشبه عطر "زوسكيند" وتلفها موسيقى خافته يصعب وصفها إذ إنها لم تسمع من قبل”. تتطلع سهير المصادفة إلى ذلك الجبل الشامخ ثم تتطلع إلى حفنة الرمل الصغيرة فى كفها وتتساءل: كيف يمكنني وضعها فوق تلك القمة؟!.. ولكنها تتذكر حكمة "كونفوشيوس" إن حفنة صغيرة من الرمال قد لا تكفي لتعلية قمة جبل شامخ لكنها تكفي تمامًا بالمزيد من الجهد والمثابرة وكمية مضافة من الحصى لردم حفرة عميقة على سطح الأرض. تقول الشاعرة الروائية سهير المصادفة فى شهادتها التي تحمل رحيق الشعر: "إن تسويد المزيد من الصفحات البيضاء سيعتق بلا شك أبالسة آخرين من الصندوق المغلق الذى طالما حجبوني عنه. وأوصوني بألا أفتحه، ولكنني على ثقة بأنه أيضًا سيعتق عشرات الحكايات وآلاف النيازك لإنارة ظلام ما". وتضيف المصادفة: "بعد كل هذه السنوات من تأمل البيانو الصامت الضخم فى ركنه المهمل، وتأمل عجزي آنذاك للوصول إليه.. من سيصدق أنني أصحو كل صباح على صوت موسيقى غامضة وغارقة فى الظلام، وكأنها تنبعث من بيانو مغطى بملاءة بيضاء". * سهير المصادفة شاعرة وروائية مصرية ومترجمة.. صدر لها ديوانان شعريان "هجوم وديع" و"فتاة تجرب حتفها" ، وروايتان "لهو الأبالسة" و"ميس ايجيبت".