تعود الباحث ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا رصد المواقع التي وقعت بها غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحديد معالمها ووصفها لأبنائه الطلاب والباحثين عن الآثار ومواقعها وقد رصد كثيرا من تلك المعالم ومنها غزوة “دومة الجندل”، حيث كانت هذه الغزوة في ربيع الأول سنة خمس (يوليه سنة 626م). واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عُرفُطة الغفاري، وسببها أنه بلغه أن بها جمعًا كبيرًا من يظلمون من مر بهم وأنهم يريدون الدنو من المدينة فخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ومعه دليل له من عذرة يقال له مذكور، فأصاب أهل دومة الجندل الرعب وتفرقوا ثم عادوا إلى المدينة، قال ابن الأثير وغنم المسلمون إبلاّ لهم. وقال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا؛ فأقام بالمدينة بقية سنته مع وجود اختلاف في بعض المصادر حول هذه الغزوة، هل هي غزوة أم سرية، حيث تذكر تلك المصادر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل دومة الجندل، وهذا لا يمنع أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما اتجه إليها خرج منها حاكمها آنذاك (الأكيدر) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصر بالرعب كما ورد في الأحاديث الصحيحة. وتحقق للباحث وقوفه على دومة الجندل، حيث قدم إليها من وطن حاتم الطائي (حائ) وأثارت ذكرياته كثبان (رمال عالج) حيث تمتد مئات الأميال، كما يطلق عليها (كثبان طَيْ) حيث عرج عليها الباحث مع صحبه ذاكرًا لهم: سائق الأظعان يطوي البيد طيْ منعِمًا عرِّجْ على كثبان طيْ وبذات الشيح عني إن مَرَرْت بحيٍّ من عُريب الجزع حيِّ وتلطف واجر ذكري عندهم علّهم أن ينظروا عطفًا إليّ ويكرر ذلك على أسماعهم دائمًا ولاسيما بعض الأبيات الشهيرة التي تناولت دومة الجندل ومنها: حمامة جرعا دومة الجندل اسجعي فأنتِ بمرأى من سُعَادٍ ومَسْمَعِ وقد حفظ صحبه أو بعضهم على الأقل هذا البيت من كثرة تكراره. وأخيرًا وصلنا دومة الجندل الضاربة في التاريخ، حيث لا يخلو منها تقريبا أي موقع تاريخي، ولاسيما تاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ الأسواق وتوصف دومة الجندل دائما بارتباطها بحصن مارد وسميت دومة الجندل، لأن حصنها بني بالجندل (الصخور). وعند الوصول علق بعض أصحابه مستهزئًا لم نسمع سجع الحمام بل ولم نره وأين سعاد التي أكثرت من ذكرها أثناء السفر؟ وللإجابة على تساؤله تذكّر الباحث بعض أبيات من قصيدة بانت سعادُ التي ألقيت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مواعيد سعاد: فلا يغرّنك ما منّت وما وعدتْ إن الأمانيّ والأحلام تضليل كانت مواعيد عرقوبٌ لها مثلًا وما مواعيدها إلا الأباطيل وهناك بحث كامل عن دومة الجندل لم يحن نشره بعد، ذلك لأن هناك موقعًا أثار الباحث ولفت نظر صحبه قريبًا من مدينة سكاكا، حيث يقع ذلك المكان في الجنوب الغربي لسكاكا على مسافة (15) كيلًا، كما يبعد نحو (45) كيلًا من مدينة دومة الجندل، هذا الموقع عبارة عن أعمدة صخرية طويلة يطلق عليها اسم (الرجاجيل) وكثرت التفسيرات حول هذه الأعمدة المثيرة، فبعض تلك المصادر تذكر بأنها تمثل شواهد مادية لوجود مدينة قديمة مطمورة تحت الرمال. ويرجع المؤرخون وجودها إلى آلاف السنين، وهي موجودة في ساحة رملية شبه دائرية يبلغ قطرها نحو 500 متر على شكل مجموعات، إما أربع، أو ثلاثة، أو اثنان، أو واحد، وبعضها ارتاح من سفر السنين الطويلة واضطجع على الأرض. ومن التفاسير الأخرى لهذه الأعمدة المثيرة أنها شواهد قبور قديمة أو أماكن للعبادة قديمًا ويوجد على بعضها نقوش وبقايا لرسوم مختلفة قد تكون لها دلالات معينة، واللافت للنظر أن ما يحيط بها عبارة عن تلال رملية ولا توجد جبال صخرية مثلًا مشابهة لتلك الأعمدة حولها، كما أن التفسيرات الأخرى لهذه الأعمدة أنها لقياس أشعة الشمس في أوقات مختلفة أي للتوقيت الفلكي، وقد عثر في الموقع على أدوات حجرية مثل رؤوس السهام والمخارز، علمًا بأن أغلب المؤرخين يرجع تاريخ هذه الأعمدة إلى فترة العصر النحاسي. والموقع محاط بالمزارع حيث أضفت عليه جمالًا يتكامل مع طبيعة المنطقة المحيطة، ولاسيما أن وقت زيارة الباحث للمكان كان وقت الربيع حيث البساط الأخضر يغطي بعض الأماكن إضافة إلى الرمال الذهبية التي زادته بهاءً وجمالًا.