يمثل التعليم بما يعكسه من قيم أخلاقية ومنظومة معارف متنوعة، أكثر المواضيع إلحاحا للنقاش ضمن ثنايا أي مجتمع مدني ناهض ، يرغب قادته في تبوئه أعلى المراتب بين مصاف الدول المتقدمة ، ذلك ما حاك في ذهن القائد الفرنسي ديجول ، الذي وحين استشرى الفساد جُلَّ أركان الجمهورية الفرنسية ، وكاد أن يقضي عليها في الربع الثاني من القرن العشرين المنصرم ، أخذ في الاهتمام بتعزيز مقومات نقطة البداية الجوهرية في عملية الإصلاح والنهضة والتجديد ، المتمثلة في مصنع القيم ، ومنبع المعرفة ، حيث وحين عرض مستشاري الدولة حقيقة أوضاع الجمهورية الفرنسية السيئة ، تمحور سؤاله الكبير حول وضع التعليم متسائلا : هل وصل الفساد إلى الجامعات ؟ فقيل له : لا ، فقال : هناك إمكانية كبيرة لإصلاح الأوضاع . إنها البداية الحقيقية لأي مشروع نهضوي ، وهو ما حرص عليه جُلَّ المصلحين على هذا الكون ، والنماذج على ذلك لا تحتاج إلى دليل ، وهو ما يجب أن يكون هدفنا نحن ، وأتصور أن ذلك هو مراد توجه هدفنا الإستراتيجي ، الذي تسعى للوصول إليه وزارة التربية والتعليم بقيادة سمو الأمير فيصل بن عبد الله في الوقت الراهن . ومع يقيني بأن سطح مكتبه مليء بالكثير من الدراسات ، وصور عديدة للنماذج التعليمية التي يمكن الاستفادة منها ، إلا أني ومن باب الإحساس بالمسؤولية التي حضنا عليها قائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في العديد من خطاباته ، أجدني مهتما بالكتابة في هذا الموضوع للمرة الثانية في غضون أشهر بسيطة . من هذا المنطلق أتصور بأننا في حاجة ماسة إلى ممارسة نهضة إصلاحية في جوهر العملية التعليمية ، التي يقوم أركانها على مثلث ، أحد أضلاعه المقرر الدراسي ، والآخر المبنى المدرسي ، وهو ما تسعى الوزارة إلى تطويره بشكل ملحوظ ، أما الضلع الثالث فهو المعلم ، الذي هو في أمس الحاجة في الوقت الراهن إلى إعادة حالة الثقة به وبقدراته الوظيفية ، المختلفة بمميزاتها وخصائصها عن غيرها من القدرات الوظيفية الأخرى ، فالمعلم بما يملك من قدرة ، وبما أوتي من حكمة ، مكلف بتشكيل ذهنيات أبنائنا ، وتطوير قدراتهم المهارية والإبداعية ، وبالتالي فإن ظروف عمله تتطلب التعامل معه بأسلوب مغاير عن باقي موظفي القطاع الحكومي والخاص ، الأمر الذي حرصت على تطبيقه مختلف الدول المتقدمة ، بهدف تحقيق غاياتها الإستراتيجية العليا ، مما جعل المعلم ، باعتباره الضلع الرئيس في العملية التربوية والمعرفية ، يتبوأ مكانة عالية في سلمها الوظيفي والاجتماعي ، ويعيش تفاصيل وظيفته بالصورة التي تتواءم مع احتياجات طلابه ، بعيدا عن بيروقراطية وفلسفة مسئولي الوظائف المكتبية ، البعيدين عن طبيعة الميدان التربوي والتعليمي ، الذين أرهقوا أنفسهم ومجتمعهم الوظيفي بالعديد من الأنظمة البيروقراطية السلبية . وحتى لا أكون تنظيريا ممجوجا ، فأتصور أن الأمر يمكن معالجته من زوايا متعددة وهي : تأصيل مفهوم الدوام التعليمي كبديل عملي لحالة الدوام الوظيفي التي يتم تطبيقها دون جدوى حاليا ، وإيجاد حلول عملية لترقية العاملين في الميدان التربوي وظيفيا ، وتحرير مفهوم التطور والارتقاء في إطار العمل التربوي من حالته المادية المباشرة المقترنة بالتعيين كإداري أو مشرف وما إلى ذلك ، إلى حالته المعنوية المتعلقة بالإنجاز المعرفي ، والتميز السلوكي.