التعصب للرأي خلق يفسد على المنتسب للعلم عقله، فينكر ما هو حقيقة ويجري وراء الاوهام ليثبت بها رأيه، لانه استقر في ذهنه ألا حق سوى ما يقول ولا عقل اوفى من عقله، فإذا كان يرى ان قيادة المرأة للسيارة امر محرم، ونقل عن احد العلماء انه رد على سؤال وجه اليه عن حكمها فقال: “اذا حرمت المرأة ركوب الدابة وقيادتها حينئذ ستحرم المرأة قيادة السيارة” فقال المتعصب لرأيه: ان المرأة في عهد النبوة لم تكن قيادتها للدابة امراً ظاهراً، حتى يمكن الاحتجاج باقرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها، وعجباً لقول فج كهذا لا يستند الى معرفة شرعية، ولا استدلال صائب ومقبول، فمن قال: ان الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- اقر المرأة على ان تركب الدابة او تقودها، بل وهل الامر في حاجة الى اقرار منه، واباحته معلومة بالضرورة، فالمرأة تركب الدابة منفردة، ويركبها غيرها الدابة، منذ ذلك العهد وحتى اليوم، وفي بوادي بلادنا هذا سلوك غير مستنكر فالمرأة تقود الدابة وتركبها فالاصل في الاشياء الاباحة، وليست في حاجة للسؤال عن حكم ذلك، وهي تقود السيارة عند الحاجة الى ذلك ولا يحرمها عليها احد، وما السيارة الا مثل الدابة، فكلتاهما وسيلتا نقل، ولا حاجة بنا لمثل هذا التنطع، وانظر الى متعصب اخر لرأيه اشغله امر الاختلاف على الاختلاط ما ابيح منه عند بعض القوم بضوابط، وما حرم منه بعضه او كله عند البعض الاخر، حتى اصبح هاجساً لدى الكثيرين، فأراد ان يجد وسيلة تبيح لوناً منه تخرجه من معركة الاختلاف فعمد الى رواية في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ان سالماً مولى ابي حذيفة كان مع ابي حذيفة واهله في بيتهم، فأتت (تعني ابنة سهيل) فقالت: ان في نفس ابي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ارضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت فقالت، إني ارضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة» وقد اتفق أهل العلم على ان هذه واقعة عين اختصت بسالم، وقد ربته أمه التي تبنته صغيراً ونشأ في بيتها، ولا تتعداه إلى غيره، ولا تصلح للاحتجاج بها، وفي صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها كانت تقول: «أبى سائر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُدخِلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة -رضي الله عنها- والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا)، ولم يأخذ أحد بهذا الحديث ليبيح للمرأة أن ترضع رجلاً أجنبياً عنها فيحرم عليها، ففي المذاهب الاربعة لا تحرم الرضاعة إلا ما كانت في الحولين لقول الله عز وجل: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)، ولا رضاعة محرمة بعد الحولين، ولورود أحاديث كثيرة صحيحة تشير إلى ذلك، مثل (لا يحرم الرضاعة إلا ما فتق الامعاء وكان قبل الفطام) ومثل (إنما الرضاعة من المجاعة)، وهو المروي عن جل الصحابة والتابعين، واستقر الامر على ذلك، ثم إن رضاعة الكبير تفتح باباً سده الشرع بإلغاء التبني، سواء أكانت هذه الرضاعة بمص الثدي الذي فيه من المحظور ما يعلمه أدنى الناس علماً، أو كان عبر حلب الثدي في إناء ثم شربه، مما قال به بعض من أخذوا بالقول الشاذ، فهلا أراح من افتى بذلك نفسه من هذا كله، وبحث في ما ينهض بالأمة في شتى جوانب الحياة، والدافع لذلك في نصوص الشرع واحكامه الشيء الكثير، ثم انظر الى هذا الذي تعصب لرأيه فحرم على الفتيات أن يمارسن الرياضة في مدارسهن، بعيداً عن الرجال، لما توهمه من مفاسد ستقع بسبب ذلك، هي أوهام في رأسه ولا صلة لها بالواقع، والغريب انه جزم بالتحريم، ولم يورد دليلاً واحداً على هذا التحريم، بل الادلة على نقيضه لا يحصيها الحصر، ويظن انه اذا حكم بأن اقرار ممارسة الفتيات للرياضة في مدارسهن اتباع لخطوات الشيطان، أذن له ان يستدل على حرمتها بكل ما جاء في كتاب الله من آيات تنهى عن اتباع خطوات الشيطان مثل قوله عز وجل: (يا أيها الناس كلوا مما في الارض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)، وما دام بيننا من يحكم على الشيء بهواه انه حرام واتباع لخطوات الشيطان دون أن يقيم على ذلك دليلاً، ثم يعارض به كل خطوة تتخذ من قبل الوزارات المشرفة على اهم قطاعات العمل الوطني، فإن العلم الحقيقي غائب عنا، وتحل محله الاوهام، ولو أن كل امورنا فعلاً تعرض على كتاب الله وما صح من سنة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نفرق بين ما دلا عليه نصاً وحكمه القطع، وما توصل اليه أحدنا باجتهاده، وهو يعلم أنه حكم ظني، قد يكون عند من هو أعلم منه ما هو أقرب لنص الكتاب والسنة، لما وجدنا هذا الكم المتزايد من هذه الفتاوى المتهافتة، التي لا تقوم على علم صحيح، بل لعل بعضها مثير للضحك، فهل ندرك هذا، هو ما ارجو والله ولي التوفيق.