لا يعجز الفنانَ شيءٌ عن أن يعبر عمّا يريد، بالشكل الذى يراه مناسبًا لرؤيته الفنية ودلالاته الفكرية وفلسفته الخاصة مادام يمتلك موهبة فطرية، وخبرة فنية، وخيالاً خصبًا، ومقدرة على التجديد والابتكار. والفنان التشكيلى السعودى فيصل الخديدي من أصحاب هذا الطراز، فلقد قدم من خلال معرضه “ثمة ما يستحق” فضاءات واسعة للقراءة والتأويل بما ينم عن أفق واسع وحرفية متميزة . وأعتقد أن تجربة هذا المعرض ستترك بصمة فنية وفكرية في تاريخ الفن التشكيلي السعودي، وستترك كذلك أثرًا مدهشًا في مخيلة شباب التشكيليين المعاصرين، وأظن أنها تجربة غير مسبوقة في تاريخ الفن التشكيلي العربي، وهى بذلك تدخل مع مثيلاتها من غرائب التجارب في تاريخ الفن التشكيلي العالمي. وفكرة المعرض تقوم على أثلجة كل ما هو غالٍ وثمين لدى الفنان فيصل الخديدي في ثلاث ثلاجات وعرضها في نسق فني متكامل ومتعاضد، وهي فكرة تحمل احتجاجًا صارخًا على ما آلت إليه إنسانية الإنسان في هذا العصر تحت أقدام العولمة بماديتها الفادحة. ومن الملاحظ أن مساحة الفكر في هذا المعرض تمثّل جزءًا كبيرًا من مساحة الفن مما يوحي بوضوح الرؤية لدى الفنان، والفكر والرؤية يدعمان الفن ويزيدانه بقاء وقدرة على التعبير والإيحاء والنفاذ. وتجربة الأثلجة والتجميد هذه تحيلنا إلى تجربة فريدة كذلك في تاريخ الإنسانية وهى تجربة التحنيط عند الفراعنة، فما الذي كان يهدف إليه المصري القديم من تحنيطه الجسد، وكيف كانت تتم عملية التحنيط. لقد كان المصري القديم يحنط الجسد أي يحفظه بطريقة علمية وفنية، ويحفظ معه ما يحتاجه الإنسان المحنط من مأكولاتٍ، وتعاويذ، ومنحوتات، وذكريات، فلم تكن المقبرة عند المصري القديم محطة نهائية لرحلة الإنسان بكل ما فيها من زخم، وما حولها من أحداث؛ بل كانت مرحلة انتقالية يصمت فيها الزخم وتسكن فيها الأحداث انتظارًا لحياة أفضل وعالم أرحب حيث البعث والخلود. وعلى هذا برع الفنان المصري القديم في تجميل المقبرة بالرسومات والكتابات الهيروغليفية وذلك بتسجيل ذكريات الميت وأعماله والتعاويذ الدينية على جدران المقبرة، أضف إلى ذلك ما كان يوضع معه من أوانٍ ومنحوتات، ويحفظ كل ذلك بطريقة علمية، وفي درجة حرارة معينة بحيث تحتفظ المقبرة بمحتوياتها، وتبقى على صلاحيتها، فلا تتلف ولا تفسد. ولقد فعل فيصل الخديدي ما فعله المصري القديم ولكن بطريقته العصرية، لقد حفظ ما حفظ في ثلاجات، فالثلاجة عند الخديدي هى المقبرة عند المصري القديم، حيث إنها بدرجة حرارة معينة تستطيع حفظ الأشياء من التلف وتبقى على صلاحيتها، وإذا كان المصري القديم قد حنّط الإنسان أملاً في حياة أفضل، فإن الخديدي جمّد قيمًا إنسانية طحنتها ماكينة الحياة المادية والاستهلاكية كتعبير عن غربة الفنان في هذا العصر الذى لا يقدر إنسانية الإنسان. ولقد تمثّلت هذه القيم الإنسانية في الأعمال الفنية الخالدة والكتب الأدبية المميزة وصور لنماذج إنسانية تعاني وتتألم من وطأة العصر وجبروته، وكذلك صوّر لبعض أصدقاء الفنان وعائلته وبعض لعب الأطفال، وبعض الكتب التاريخية التى تحمل دلالات معينة، أضف إلى ذلك تجميده لرسالته الأكاديمية (الماجستير)، ومن المؤكد أن كل مفردة من هذه المجمدات تحمل إشارات ودلالات فنية وفكرية متعددة. ومع تعدد القراءات والتأويلات التى تطرحها هذه التجربة أمام المتلقي فإننى أظن أنها تشترك في أغلبها في أن الخديدي يعبّر عن التهميش والإقصاء الذى أصاب كل ما هو نبيل وإنساني في هذا العصر المادي، بل ما أصابه هو شخصيًّا كفنان يشعر بالغربة والعزلة في هذا العصر العولمي، مما أوحى له بفكرة حفظ ما حفظ من الضياع والاندثار والنسيان، عسى أن يأتي زمن يعيد لهذه القيم بهاءها ومكانتها ودورها في السياق الإنساني. ولا شك أن احتفاظه بالأشياء البسيطة وما يتعلق بالطفولة والمرأة يعطى دفئًا وزخمًا إنسانيًّا نبيلاً. أما تجميده رسالته الأكاديمية ففيها أكثر من تأويل: - فلعله رأى أن في ممارسة الفن رسالة أكبر بكثير من الدراسة الأكاديمية. - ولعله لاحظ إهمال الدارسين والباحثين والمعنيين ما جاء برسالته من أفكار ورؤى فجمدها ليجذب الأنظار إليها من خلال هذا الفعل الفني. - ولعله يضن بها على عصره المادي فحفظها لعصر قادم يشعر فيه الفنان بذاته ويزداد تقدير الفن فيه، فهو مغبون من عصره ثائر عليه، وقديمًا فعلها أبوحيّان التوحيدي فلقد أحرق كتبه في نهاية حياته عندما رأى إهمال المجتمع له فأحرقها نكاية في أهل عصره وضنًا بها عليهم. - أو لعل في تجميدها تجميدًا لدوره العلمي والثقافي احتجاجًا على الإهمال والتهميش. إن إنسانيات هذا العصر أصبحت مغبونة ومضطهدة، وخصوصيات الإنسان والمجتمعات تذوب شيئًا فشيئًا تحت أقدام العولمة، وما فعله الفنان الخديدي هو أنه أخذ كل ما يتعلق بتاريخه الإنساني والثقافي والفني والاجتماعي وما يتناص معه على هذه المستويات واحتفظ بها بطريقة فنية عبّرت عن تميّزه وتفرده فجمّدها ليحتفظ بها بعيدًا عن عالم أصبح فيه الإنسان سلعة تباع وتشترى، بل أصبح ترسًا في ماكينة الحياة المتسارعة والمتصارعة. احتفظ بها للمستقبل حتى يبقى على الأرض ثمة ما يستحق.... (*) شاعر وناقد