تطالعنا بين فينة وأخرى أصوات كثيرة بفتاوى في قضايا هي محل جدل وخلاف تهدد حياة الناس، ولا شك أن هذا من آفات كلّ عصر وقُطْر، عندما يتصدر للكلام في مسائل الشرع من لا يُعرف بعلم ولا فقه في دين الله تعالى، في نظري أن المسؤولية (عامة) وليست (خاصة) فليس من العقل تحميل جهة دون أخرى تبعة التقصير في إسكات هذا الجنس، فالإسكات إسكاتان: أولاً: إسكاتٌ بقوة السلطان، وضبط هذا عسير، تحديداً لمن يستحق السكوت، ومبلغ خطر كلامه، ونوعية العقوبة المتخذة تجاهه. ثانيا: وإسكاتٌ بالإعراض والهجر بإحسان، وهذا أسهل وأكثر فاعلية، بتوعية الناس بعدم الأخذ من أولئك، وتعظيم الشرع، وعدم أخذه إلا من أهله، كما قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل:43) وأهل الذكر هم العلماء، وعبر عنهم بأهله لشدة ملازمتهم له، كأهل الرجل. والذين يفتون بغير علم، ويثيرون الأغلوطات من المسائل هم من الذين يخوضون في آيات الله، والله تعالى أمرنا بالإعراض عنهم فقال: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:68) . ويقول محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فكذلك ينبغي أن توعى المجتمعات بعدم أخذ الفتوى إلا من الجهات المعنية، أو العلماء المعروفين بالعلم والديانة. وهذا واجب على العموم من الحاكم والمحكوم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان: (يخلف خلوف يفعلون ما لا يؤمرون، ويقولون ما لا يفعلون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) رواه مسلم. فالكل يجب أن يقف ضدهم باليد (يد السلطة) واللسان (لسان الشجب والاستنكار) والقلب ( قلب الرفض وعدم قبول رأيهم ). والدولة لا لوم عليها من جهة توفير البديل الأصيل ذي الأهلية، فقد نصّبت (هيئة كبار العلماء) على وجه العموم، و(الشؤون الدينية) في كلّ قطاع حكومي، وغير ذلك من قطاع الدعوة والإرشاد. ومع ذلك فهناك من الاحتياطات الشرعية التي هي من الأهمية من بمكان، منها: عدم السماح بطرح عظام المسائل، وخاصة الخلافية في وسائل الإعلام، صيانة للعامة من الانزلاق خلف كلّ فتوى غير صائبة، وجمعاً لصف الأمة، وتعظيماً للعلم أن يبتذل فيتكلم فيه من ليس من أهله، فللمسائل وبحثها دور علم، ومعاقل بحث، ونشرات فقهية تُبحث فيها. وتفعيل اللجان الرقابية في الجهات المعنية بمتابعة ما يطرح مما له علاقة بالشرع. وإحالة المقالات الشاذة على هيئة كبار العلماء والمراجع الدينية لإصدار فتوى عاجلة في مقابلها تبين الحق فيها، وأؤكد على قولي (عاجلة) لعلاج الجرح قبل أن يتفاقم ويشيع أثره في جسد الأمة فيعسر بعد ذلك علاجه، وعلاج ما يتولد عنه من زعزعة الصف، وانقسام الرأي. البعض قد يلجأ لتصيد ما هو محل جدل وخلاف لإثارة العواطف الدينية وزرع بذور الفتنة، ولهذا عدة دوافع، منها: محبة الظهور وصرف وجوه الناس إليه، وفي ذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن في ذلك الزمان فيقول: ما بال الناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، فيقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة) رواه الآجري في "الشريعة". فأخبر رضي الله عنه، أن من الناس من يحدث في دين الله أشياءً ليتبعه الناس، وأوصانا بعدم السماع لهذا الجنس. كذلك التعالم والاغترار بالنفس؛ فالبعض يقتحم مسائل ليست من شأنه ولا من اختصاصه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وهذا يفيد (الخصوصية) بمعنى أن يوكل الكلام في كل فنٍّ وباب إلى أهله، ولو أخذ الناس بهذا الحديث، والتفت كلُّ واحدٍ منهم إلى شأنه، وترك ما لا يعنيه لاستراحت الأمة. وأخيراً الحقد على وحدة البلد الإسلامي، فيثير بعض أهل الحقد: المسائل الخلافية، والغرائب الفقهية، والأقوال الشاذة، لإحداث النزاع والخلاف بين مجتمعاتنا، وما القصد إلا تفريق الصف، وزعزعة البلد، وتحقيق الفشل، كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال:46). أن الواجب على هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية كبير في هذا الباب، فمن أفتى بالفتاوى الشاذة يُعد مغتصباً لمهمة من مهماتهم، فالجدير بتلك الجهات ونحوها، (المسارعة) إلى نقض تلك الفتاوى، وتوبيخ ذلك المفتي، والرفع فيه لولاة الأمور إن ثبت عن طريق الثقات عدم أهلته للفتاوى، ونحن في هذا البلاد نشرف ونسعد بنخبة من أجلة العلماء في هيئة كبار العلماء، فلم يبقَ إلا أن نلتف من حولهم، كما أن المأمول منهم (سرعة) الرد على (المقالات والفتاوى الشاذة) من خلال البرامج العلمية، والمشاركات الصحفية، والظهور الإعلامي لكمال النصح للمسلمين، وذلك لأن الشارع أمر الناس عند حدوث مقالة جديدة، أو أمر مستغرب أن يرد إلى العلماء كما قال تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء:83) ، والذين يستنبطونه هم العلماء، فإذا كان الشارع قد أحال إليهم النوازل، والأمور الحادثة، فالواجب سرعة اتخاذ الإجراء اللازم مقابل تلك المقالة ولو صغرت، ولا يستهان بأية مقالة، لأن مستعظم النار من مستصغر الشرر