تساءلتُ في الحلقة الماضية عن دية المرأة ترى هل ستحسب نصف دية الرجل طبقاً لاجتهادات فقهية؟، وهل ستحسب دية الأنثى المتوفاة نتيجة خطأ طبي بنصف دية الذكر؟ إنَّ آية دية القتل الخطأ جاءت بصيغة العموم: (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) أي أنَّ دية المرأة مثل دية الرجل، فالرجل يُقتَل في المرأة، كما تُقتَل المرأة في الرجل، فدمهما سواء باتفاق، فما الذي يجعل دِية دون دِية؟ هذا ما قاله فضيلة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-، استدلَّ فضيلته بحديث: «في النفس مائة من الإبل» بأنَّه لم يُفرِّق بين رجل وامرأة. أمَّا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي فقال في خطبة الجمعة بتاريخ 6 تشرين الأول\نوفمبر 1998م، وهي متوفرة في موقعه: «بقيت قضية الدية والدية. إذا نظرنا إليها في ضوء آيات القرآن والأحاديث الصحيحة، نجد المساواة بين الرجل والمرأة. صحيح أن جمهور الفقهاء وأنّ المذاهب الأربعة ترى أنَّ دية المرأة نصف دية الرجل. لكن لا يوجد نصٌ يُعتمد عليه. هناك حديثان استدل بهما أصحاب المذاهب، وهما ضعيفان بإجماع أهل الحديث. بعضهم استدلوا بالإجماع، ولم يثبت الإجماع، فقد ثبت عن الأصم وابن علية أنّهما قالا: «دية المرأة مثل دية الرجل». ثم خرج بنتيجة أنه: «ولذلك لا حرج علينا إذا تغيرت فتوانا في عصرنا عن فتوى الأئمة الأربعة وقلنا: أنَّ دية المرأة مثل دية الرجل». فحديث تنصيف دية المرأة لم يَصِحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد جاء عن معاذ ابن جبل، وقال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله. وجاء عن علي بن أبي طالب، وفيه انقطاع. وليس في الصحيحين ولا في أحدهما شيء من ذلك البتة، كما أنَّ الإجماع لم ينعقد في هذه القضية، فقد خالَف الأصم وابن علية، كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار. هذا وإن قاس البعض موضوع الدية على موضوع الإرث وموضوع الشهادة، فهو قياس غير صحيح! فليس دائمًا ترث المرأة نصف ما يرث الرجل: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) (النساء:11)، فهناك 18 صورة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل وهنالك صور تأخذ فيها المرأة أكثر من الرجل، وأربع حالات فقط التي يأخذ فيها الرجل ضعف المرأة، وهذا مبني على الأعباء المالية، لأن الشرع جعل معظم الأعباء المالية على الرجل، فليست الأعباء متساوية، وكذلك قياسها على الشهادة؛ فهذا في الإشهاد على عقود المداينة للتوثيق، وليس الشهادة في المحاكم، لأنَّ المرأة غير ممارسة للبيوع والمداينات، وقد بين ابن القيم أنَّ المرأة إذا تعلمت، ومارست هذه الأعمال فيكتفى بشهادة امرأة مقابل شهادة الرجل لأنَّ الهدف هو: (أن تذكر إحداهما الأخرى) فإذا انتفت العلة انتفى السبب، أمَّا الشهادة في المحاكم، فالقضاء يعتمد على البينة، فالآية إنَّما تتحدث عن «الإشهاد» في ديْن خاص، وليس عن الشهادة، وهي نصيحة وإرشاد لصاحب الدَّيْن -ذي المواصفات والملابسات الخاصة- وليست تشريعاً موجهاً إلى القاضي - الحاكم، وشهادة امرأتيْن برجل واحد ليست ثابتة؛ إذ يكتفى بشهادة امرأة واحدة في إثبات البكورة والثيوبة والولادة والرضاع، وتساوت المرأة مع الرجل في شهادة اللعان، والأولى أن تقاس الدية على القصاص فإذا قتل الرجل امرأة اقتص منه بالإجماع فلا يمكن أن يقول أحد إن المرأة أقل منه فلا يقتص منه! ولأن الدية والقصاص في باب واحد -التشريع الجنائي- والقصاص عقوبة والدية عقوبة، فالاعتبار للآدمية فقط. ومما ينبغي وضعه في الاعتبار إنَّ إصابة المريض بتعطيل بعض حواسه ومنافعه، أو كلها، أو فقدان حياته نتيجة خطأ طبي لا يُقاس في كل الأحوال بالجُنحة أو القتل الخطأ، فالمستشفى الذي يأتي بطبيب غير مرخص له بالعمل، أو لا يمتلك الكفاءة والخبرة لممارسة مهنة الطب، وإجراء عمليات جراحية، ولا يتأكد من صحة ما يأتي به من شهادات، فنسبة الخطأ الطبي هنا جد كبيرة، والسماح له بممارسة المهنة جريمة جنائية، والخطأ الناجم عنه يدخل في نطاق القتل العمد إن توفي المريض، أو الإيذاء العمد إن تعطلت إحدى حواسه، أو فقد أحد أعضائه أو كلها، وهنا أثني على توصية الحوار الوطني الثامن بنجران بتحرير المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالأخطاء الطبية، وتثقيف المجتمع بذلك، والتفريق بين المضاعفة المحتملة والخطأ المحتمل والإهمال والجناية المتعمدة، والعمل على الحد من الأخطاء الطبية مع العناية برصدها وتصنيفها، وبذلك تقرر التعويضات المالية بموجب هذه التصنيفات، فقيمة التعويضات المالية للأخطاء الناجمة عن الإهمال تكون أكبر بكثير من الأخطاء الناجمة عن التعب، أو الأرق، وتعويضات الأخطاء الناجمة عن أطباء غير مرخص لهم بممارسة المهنة تدخل في نطاق الجناية المتعمدة، فتكون أكثر بكثير من غيرها، كما ينبغي إلزام جميع المستشفيات بتكوين فرق طبية متكاملة من ذوي كفاءات عالية لإجراء العمليات، مع مراقبة وزارة الصحة لذلك. إنَّ ضآلة التعويضات المالية على الأخطاء الطبية أدى إلى كثرتها، وإلى تدني مستوى الكفاءات المهنية والفنية في المستشفيات والعيادات الخاصة، ولكن لوفرض تعويض بالملايين على مستشفى مرتكب خطأ طبيًا لذوي مريض توفي نتيجة خطأ طبي، فكل المستشفيات ستحرص على تعيين كفاءات طبية وفنية متميزة، وستحرص على تعيين جهاز تمريضي متميز، وتكوين فرق طبية متميزة، ولو شُهِّر بالمستشفى الذي حدث فيه الخطأ الطبي في أجهزة الإعلام، فستنحسر نسبة الأخطاء الطبية، ولكن الذي نلاحظه أنَّ المستشفيات الحكومية فقط يشهر بها إن ارتكبت فيها أخطاء طبية، فمثلاً مستشفى النساء والولادة الخاص الذي ارتكب هذه الجريمة في حق الطفلة البريئة «ريفان» لم يذكر اسمه، بينما نجد مستشفى النساء والولادة بالمدينة المنورة الحكومي أعلن اسمه عندما حدث فيه خطأ طبي، فلماذا الإعلام يحمي تلك المستشفيات التي تتاجر بحياة وأرواح البشر؟ في النهاية أتمنى أن تنفذ جميع توصيات الحوار الوطني الثامن بنجران، وندوة الأخطاء الطبية وإن كنتُ أتساءل لماذا تخلف رئيس هيئة حقوق الإنسان، ورئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان عن حضور الندوة؟ ولماذا اقتصرت الندوة على الحضور الرجالي فقط، مع أنَّ ضحايا الأخطاء الطبية ليسوا قاصرين على الرجال فقط؟؟