شهدت المرحلة الأخيرة زيادة واضحة في الشكاوى الكيدية حتى سمعنا عن بعض القضاة الذين يكتبون شكاوى كيدية في بعض المسؤولين. ورغم أن غالبية هذه الشكاوى لا تلقى آذانًا صاغية لدى بعض المسؤولين والقضاة غير أنها تترك آثارًا سلبية تبقى في النفوس فترة طويلة، وقد يقع ضحيةً لها أناس أبرياء هم بالأصل أصحاب حقوق، بل ناجحون ومبدعون في أعمالهم؛ وذلك بسبب الحقد والحسد، وإذا كان للأمر بعض السلبيات إلا أنه -من جهة أخرى- قد يقود إلى كشف جرائم ومخالفات ترتكب لهذا يجب عدم إهمال أى شكوى ولو أدى ذلك إلى استنفاد بعض الوقت. ويعتقد البعض أن الحد من هذه القضايا يتم بالتأكد من الجدية فيها من خلال طلب تعويض مادى للمتضرر وتعزير الشاكي وفرض رسوم على رفع القضايا في المحاكم. مخاوف التقاضي يقول عبدالعزيز الجهني مواطن: إن البعض لا يستطيعون التقدم بشكاوى لدى الجهات المختصة وهم أصحاب حقوق، خوفًا من العقاب الذي ليس في مكانه، فعلى سبيل المثال: قام أحد الأشخاص الذين أعرفهم بالإساءة لشخصية بارزة في أحد المنتديات الأمر الذي دفعه لتقديم شكوى لدى الجهات المختصة؛ ليصدر الحكم بتبرئة الشخص لعدم توفر القرائن والبراهين، الأمر الذي دفع المدعى عليه بالتقدم بدعوى لرد اعتباره لما لحقه من ضرر وهو في الأصل الجاني وذلك بسبب عدم وجود نظام واضح وصريح يبين كيف تثبت الشكاوى الكيدية، ويشاركه الحديث محمد عبدالله الرشيدي مواطن قائلًا: كثيرًا ما نسمع عن شكاوى باسم فاعل خير. فإذن كانت هذه الشكاوى على حق فهذا لا جدال فيه، ولكن عندما تكون على باطل من أجل الانتقام فذلك يستدعى وجود عقوبة صريحة للشكاوى الكيدية، وقد سمعنا بقصة المواطنة سوسن والتي بدأت من عام 2004 عندما أمرت محكمة في الرس، بمنطقة القصيم بسجن زوجها، لتدخل في متاهات ودهاليز مراجعات الدوائر الحكومية لتنتهي القضية في عام 2010 بالحكم عليها بالسجن لمدة عام وجلدها300 جلدة بتهمة تقديم دعاوى كيدية وبلاغات كاذبة. من جهته يقول عازب بن سعيد آل مسبل رئيس لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية وحقوق الإنسان بمجلس الشورى أن النظام النافذ حاليًا يعاقب صاحب الدعوى الكيدية ويحمله تبعات الدعوى المادية والمعنوية التي لحقت بالمتضرر، وهناك عقوبة يحال بموجبها إلى المدعي العام لمجازاته لقاء هذه الدعوى الكيدية. أما عن تقدير العقوبة فهو متروك للقاضي حسب فهمه وتقديره للقضية، وكما قال ابن القيم رحمه الله: (الفهم فهمان فهمٌ لواقع القضية ومطابقتها بالواقع وما يتفق معها من الأحكام) وهذا شأن القاضي. 7 ضوابط للنظر في الشكاوى الكيدية ويقول الشيخ صالح بن سعد الحيدان المستشار القضائي الخاص أستاذ كرسي القضاء الجنائي المستشار العلمي بالجمعية العالمية للصحة النفسية بدول الخليج والشرق الأوسط: إن الشكاوى الكيدية تصدر عن ثلاث أنفس: إما لمجرد الحسد، أو الضغينة والانتقام، وإما أن تكون حقيقية ولكنها مبالغ فيها، والقسم الثالث قليل ولكنها كلها تخضع لدائرة الشكاوى والدعاوى الكيدية. وأوضح أن الأصل فيها التحريم في الكتاب والسنة والإجماع، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة) وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بعموم النظر: (إنما أقضي بما يظهر لي). ورأى ضرورة أن ينظر لهذا الموضوع من خلال سبعة أوجه الأول: مصدر الشكوى والثاني: أطرافها، والثالث: حقيقة وأصل الشكوى، والرابع: أن ينظر نظرًا واسعًا علميًا في العلاقة بين الشاكي والمشتكي بمعنى هل بينهما عداوة أو خصومة من قبل، والأمر الخامس: هل هذه الشكاوى التي حصلت وأقلقت المسؤولين في الديوان أو مجلس الوزراء والمعنيون بمثل الواقع. هل الذي فعلها لديه أمراض نفسية، وهذه النقطة هي التي سرت الملك فهد كثيرًا، والنقطة السادسة: هل هذا الرجل مدفوع بمعنى مغرر به أو مستغلًا ليكون في الواجهة ليكيد ويشتكي ويترافع؟ والسابعة: هي بحث المسألة من جميع الوجوه قبل مساءلة الشاكي؛ لان الوقاية حسب علمي ودراساتي القضائية وسياسة الإدارة العليا خير من العلاج . غياب العقوبات من جهته أكد الدكتور عبدالرزاق الزهراني أستاذ علم الاجتماع المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود رئيس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية أن ضعف الوازع الديني وغياب الجزاء الرادع يعد السبب الرئيسي في انتشار هذه الظاهرة مؤكدًا أن الكثير من الموظفين يستخدمون الجهات الحكومية كوسيلة للانتقام من خصومهم؛ ليدخلوا في دهاليز المراجعات والقضايا الروتينية التي تستنزف جهدهم ووقتهم، وقال إن الاشخاص الذين أدمنوا تقديم الشكاوى الكيدية باتوا معروفين في مجتمعهم بأخلاقهم الرديئة وافتقاد الشجاعة في المواجهة. ويقول الدكتور فلاح العنزي أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الملك سعود: إن الدعاوى الكيدية مهما تعددت أشكالها ووسائلها وطرقها فهي -في النهاية- ناتجة عن النفس البشرية وخاصة عندما تكون كاذبة وضد المتفوقين وأصحاب الإنجاز في أعمالهم بهدف النيل منهم، لكنه استدرك موضحًا أن بعض الشكاوى قد تحتوي على معلومات حقيقية تقود إلى كشف جرائم ومخالفات أخرى. ويقول الدكتور سعود الفنيسان عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقًا إن وجهة نظر الشرع للمتقدم بالشكاوى الكيدية أنه كاذب ومتقول على غيره بغير حق، ومن ثم قد يدخل أيضًا في مفهوم شهادة الزور؛ لأنه يخبر عن شيء على خلاف الحقيقة. لذلك يجب تعزيره بالسجن أو الجلد والمنع من السفر أو الخصم من الراتب. ويقول المحامي محمد بن سند آل سند إن المادة الأولى من قواعد الحد من آثار الشكاوى الكيدية والدعاوى الباطلة تنص على أن رفع الشكاوى حق لكل شخص، أما المادة الثانية فتؤكد أنه عند تقديم الشاكي شكوى في قضية منتهية بحكم أو قرار يعلمه وأخفاه في شكواه، يجوز إحالته للمحكمة المختصة لتقرير تعزيره. وبموجب المادة الثالثة فإنه يجوز لمن اعترض على حكم أو قرار نهائي مكتسب القطعية بقناعة أو تدقيق من جهات الاختصاص وثبت لدى المحكمة أنه لم يقدم وقائع جديدة تستوجب إعادة النظر في الحكم أو القرار، فيؤخذ التعهد اللازم عليه في المرة الأولى بعدم الاعتراض على الحكم أو القرار، فإذا تكرر منه ذلك يحال إلى المحكمة المختصة للنظر في تعزيره. كما نصت المادة الرابعة: على أنه من تقدم بدعوى خاصة وثبت للمحكمة كذب المدعي في دعواه، فللقاضي أن ينظر في تعزيره، وللمدعى عليه المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر بسبب هذه الدعوى. ويشاركه الرأي المحامي عبدالرحمن بن صالح الزغيبي موضحًا أن الشكاوى الكيدية هي الدعاوى التي تخلف فيها أحد شروط الدعاوى الصحيحة، وهنا يظهر دور القاضي بحكم ما لديه من علم ومعرفة للتفريق بين الدعوى الصحيحة و الكيدية، وإذا تبين له أن الدعوى المرفوعة أمامه هي دعوى كيدية يرفض نظرها، ويمكن له أن يحكم على المدعي بالتعزير، وذلك للحد من تقديم الدعاوى الكيدية، ويمكن إذا ثبت للمدعى عليه أن إقامة المدعي للدعوى كانت كيديًا ولم تكن لمصلحة مشروعة؛ لتعطيل انتفاعه بمال أو التشهير به أو إشغاله أو أي ضرر آخر أن يطلب من القاضي الحكم بتعزير المدعي، وله أيضًا المطالبة بالتعويض عما لحقه من ضرر مادي مؤكد بسبب تلك الدعوى. سهولة اجراءات التقاض تزيد الشكاوى الكيدية دعا القاضي الشيخ حمد الرزين لفرض رسوم على إجراءات التقاضي كما هو معمول به في الدول الأخرى للحد من الشكاوى الكيدية التى تهدف إلى الإضرار بالخصوم وتشويه سمعتهم . وأرجع زيادة هذه القضايا إلى سهولة إجراءات القضاء في المملكة، اذ لا يلزم المدعي بتوكيل محام أو دفع أى رسوم، بل ترسل من يبلغ خصمه بالنيابة عنه ثم يبدأ الخصم في المعاناة بسبب الدعوى التي قد لا تقوم على أي أساس صحيح ثم تنتهي بعدم ثبوتها و يخرج المدعي من المحكمة بقلب بارد بعد أن أذاق خصمه الأمرين، و بعد أن أشغل الدوائر الحكومية مدة من الزمن، كما تظهر الدعاوى الكيدية بصورة غير مباشرة في القضايا الزوجية، إذ تتقدم الزوجة بدعوى ضد زوجها بطلب فسخ نكاح، ثم ترفق بها دعوى أخرى بحضانة الأولاد، و تقيم دعوى ثالثة بالنفقة، ورابعة للمطالبة بمستحقات سابقة. وأشار إلى أن نظام المرافعات تضمن في مادته الرابعة نصًا في هذا الموضوع هو ضرورة التثبت من مصلحة المدعي في الدعوى على أنه (لا يقبل أي طلب أو دفع لا تكون لصاحبه فيه مصلحة قائمة مشروعة، ومع ذلك تكفي المصلحة المحتملة إذا كان الغرض من الطلب الاحتياط لدفع ضرر محدق، أو الاستيثاق لحق يخشى زوال دليله عند النزاع فيه. وإذا ظهر للقاضي أن الدعوى صورية كان عليه رفضها، وله الحكم على المدعي بنكال) كما تعرضت اللائحة التنفيذية لتفسير هذه المادة فنصت على أنه يقصد بالمصلحة: كل ما فيه جلب نفع أو دفع ضرر. وأن يستظهر القاضي الطلب إن لم يحرره طالبه، ويرد ما لا مصلحة فيه،كما نصت على أنه إذا ثبت لناظر القضية أن دعوى المدعي كيدية، أو صورية، حكم برد الدعوى، وله الحكم بتعزير المدعي بما يردعه و يكون هذا الحكم برد الدعوى والتعزير في القضايا الكيدية والصورية في ضبط القضية نفسها، ويخضع لتعليمات التمييز. إلا أن ما أفسد العمل بهذه المادة هو الفقرة الأخيرة ذات الرقم 4/8 من اللائحة التنفيذية والتي نصت على أنه: (يقرر التعزير في القضايا الكيدية، والصورية حاكم القضية، أو خلفه بعد الحكم برد الدعوى، واكتسابه القطعية). واوضح ان هذه الفقرة منعت القاضي من العمل بمقتضى هذه المادة مباشرة و ألزمته ألا يعاقب المدعي إلا بعد الحكم برد الدعوى و اكتساب الحكم القطعية، و معلوم أن الحكم إذا اكتسب القطعية فإنه يصعب استحضار المدعي للمحكمة، و يكون القاضي بمثابة الخصم له، إذ إن خصمه غالبًا لا يتابع هذه الدعوى اللاحقة و يكتفي بالحكم برد دعوى المدعي، و الواجب إعادة النظر في إلغاء هذه الفقرة من اللائحة التنفيذية ليكون للقاضي الحكم بالنكال مباشرة بعد رد الدعوى، ولا مانع من إرجاء التنفيذ إلى ما بعد اكتساب الحكم القطعية. حقوق الإنسان تطالب بتفعيل ضوابط منع الشكاوى الكيدية أكد المشرف العام على فرع جمعية حقوق الإنسان بمنطقة مكةالمكرمة الدكتور حسين الشريف وجود ضوابط حاليًا للشكاوى الكيدية معممة على سائر الأجهزة الحكومية إذ يشترط تقديم الشكوى باسم صاحبها. وتحتوي على معلومات يمكن من خلالها التواصل معه مطالبًا الأجهزة الحكومية بالالتزام بتفعيل هذه القرارات على أرض الواقع بحيث تهمل أي شكوى كيدية لا يوجد لها صاحب. وأكد أن المتضررين من الشكاوى الكيدية لهم الحق في رفع دعاوي التعويض. ولكن الكثير من أفراد المجتمع لا يمارس حقه لوجود صعوبة في تقدير التعويض لدى الجهات القضائية خصوصًا فيما يتعلق بالمعنوي. وأعرب عن أمله في وجود تنظيم خاص للتعويض يساعد القضاة في أعمالهم موضحًا أن أغلب الشكاوى الكيدية التي ترفع إلى الجهات القضائية الهدف منها هو الإزعاج والتجني على الشخص المشتكى عليه وإشغاله بقضايا أمام القضاء. العجيري: القضايا غير المحررة تضيع وقت القضاة قال قاضٍ عام إن كثيرًا من الدعاوى التي تحال إلى المحاكم غير مبررة لعدم توضيح المدعي المطلوب فيها على وجه التحديد، ودعا عبدالرحمن بن عبدالعزيز العجيري القاضي بالمحكمة العامة بجدة إلى عدم التساهل بقبول الدعاوى غير المحررة بهدف الإضرار بالخصم، وأضاف العجيري: يكفي أن يحضر المدعي خصمه إلى المحكمة وإن لم يصدر عليه أي حكم ضده؛ ليتباهي بالمجالس، محذرًا المحاكم من قبول هذه الدعاوى وداعيًا إلى ضرورة إصدار أحكام تجاه المتلاعبين في تقديم الشكاوى الكيدية ، وأضاف أن المحاكم لديها طريقتان للحفاظ على الناس من أصحاب الدعاوى الكيدية، من خلال إلزام المدعى بتقديم الدعوى محررة، والأمر الثاني: أن يحكم على أصحاب الدعاوى الكيدية بأحكام رادعة يتم الإعلان عنها؛ لأن خسائر المدعى عليه لا تقتصر على مراجعة المحاكم وتشويه سمعته وإنما قد يخسر ماديًا بتوكيل محامٍ، وبين أن هذا الأمر يحتاج إلى دراسة مجتمعية واجتهادات، ووضع الحلول الجذرية من جانب مجلس القضاء الأعلى أو من وزارة العدل؛ لأن الذين يقبلون تلك الدعاوى في المحاكم هم كتاب ينتمون إلى وزارة العدل، ويحتاجون إلى إعادة تأهيل.