استمعت لمقطع غنائي على طريقة الراب، تدور كلماته حول سيول جدة الأخيرة، نفذه و أداه بصدق مجموعة من الشباب الغيور على بلده، وعبّروا فيه عن مشاعر القهر والحزن، التي انتابت كل إنسان سمع واطلع على الآثار الكارثية لسيل الأربعاء الأخير (8 ذو الحجة 1430ه) الذي اجتاح جدة، والذي سبق لي اعتباره أحد أشكال (الحصاد المر للفساد) المالي و الإداري الذي ضرب بأطنابه مفاصل الأداء الحكومي، ليس في جدة فقط و إنما في مختلف المدن. وقد حمل المقطع الغنائي برغم قصره - أربع دقائق - سيلا من الكلمات التي تعكس المشاعر والمعاني السلبية، مثل القهر، موت الضمير، انطفاء الخير، إزهاق الأرواح، بيع الوطن، الجروح، الآلام، والخيانة، وكلمات تنبه إلى حجم الخطر الذي يحمله لنا الفساد، وأنه أشد من الإرهاب . الإرهاب بالمعنى الدارج والمرتبط بقتل الآمنين والأبرياء من الناس، وفي ظل تكاتف جهود الدول والشعوب على محاربته، يظل خطره محدودا، وآثاره محدودة إذا ما قورن بآثار الفساد. والفساد في أصله فساد أخلاق، ويتفرع عنه الفساد المالي، والفساد الإداري، ولجميعها آثار مدمرة لبنية المجتمع، ونسيجه، ودعائمه، المتمثلة في العدالة والحق في العيش الكريم. وأنا هنا أدعو القاريء الكريم إلى تأمل الآثار المدمرة للفساد الإداري والمالي، من خلال ما نعيشه ونسمعه، ومن خلال ما سيرد في هذا المقال مما خلصت إليه بعض الدراسات والأبحاث التي أجرتها جهات علمية ومنظمات دولية حول الفساد وآثاره المدمرة، وأنا على يقين بأننا سنتفق على أن الفساد أشد خطراً من الإرهاب. وفي البداية لابد من الإشارة إلى أن البعض يرى بأن أس الفساد الإداري والمالي هو اختلال العدالة في توزيع الثروة، وعدم تكافؤ الفرص في المجتمع، وبالتالي بروز تباين طبقي في المجتمع ما بين ثراء فاحش وفقر مدقع، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى إضعاف الولاء للوطن وللأهداف العامة المشتركة للمجتمع، ومن ثم بروز سلوكيات منحرفة وفاسدة في أجهزة الدولة. وتوصل الباحثون إلى أن من الآثار السلبية والمدمرة للفساد تداعي منظومة القيم في المجتمع بشكل عام، وإضعاف السلطة المعنوية والأخلاقية في المجتمع، وإضعاف كفاءة العمليات الحكومية، وزيادة فرص الجريمة المنظمة، وضعف فاعلية القرارات السياسية، وسوء استخدام الموارد المتاحة. ويضيفون أثراً سلبياً مضافاً للفساد في الدول النامية، وهو زيادة التفاوت الطبقي، حيث لا يؤدي الفساد إلى تمكين الموظفين من أن يصبحوا من أصحاب الملايين فحسب، بل يقود أيضاً إلى تدهور ملايين المواطنين العاديين. أي أن الفساد يوسع دائرة الفقر، وهنا علينا أن نتذكر أنه بذلك سيكون السبب في إفشال كل مشاريع مكافحة الفقر التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين وفقه الله، وإحباط كل الجهود التي تُبذل في سبيل ذلك. وفي دراسة حول آثار الفساد على التنمية يقول Dieter Frisch (1996) «الفساد هو أحد أسباب التخلف والفقر، ومع ذلك فإن الفقر هو المسؤول جزئياً عن استمرار الفساد. فإذا كان الشخص لا يستطيع الحصول بأمانة على حياة كريمة لنفسه وأهله، فإنه يكون في هذه الحالة مدفوعا بشكل أو بآخر للحصول عليها بوسائل أقل أمانة. وفي هذه الحالة يُصبح الفساد هو سبب ونتيجة للتخلف. وبالتالي علينا محاربة فساد الحجم الكبير باعتباره سببا كبيرا للتخلف، وعلينا العمل تدريجياً لإزالة أسباب ترويجه في المجتمع، وبالتحديد علاج - سيئ الذكر - نقص الدخل الملائم لضمان الحياة الكريمة. بعبارات عامة يمكننا القول إن الفساد أيضاً يقتل روح التنمية والتطور . ولا شيء أكثر تدميراً للمجتمع من ملاحقة المال السهل والسريع الذي يجعل الناس الأمناء الذين يعملون بجد يبدون مغفلين وساذجين ». وهذا الكلام يقود إلى تأمل أحوال مجتمعنا في ملاحقة المال السهل، والحلم بالثراء السريع دون عمل، وكيف يتهافت - الكثير منا - على المشاركة في (مهرجانات) النصب والاحتيال، التي يقيمها بعضنا، بالإعلان في الفضائيات وإذاعات الFM، وتعينهم على ذلك للأسف هيئات وشركات الاتصالات، فينصبون شراكهم لهؤلاء الحالمين، ويجنون من وراء ذلك مليارات الدولارات شهرياً، حيث تُشير التقديرات إلى حوالى خمسين مليار دولار مجموع ما ينفقه العرب على هذا النوع من الاتصالات في كل عام. ويذكّر أيضاً بوقوع الناس بسهولة في شراك الفاسدين من أصحاب المساهمات الوهمية، وفي إغراءات سوق الأسهم، وكيف أن وراء كل ذلك البحث عن المال السهل، والثراء السريع. إن من الفساد السكوت على استغلال الفضائيات بتعاون هيئات وشركات الاتصالات لرغبة البعض في الثراء السريع والمال السهل، والاستحواذ على مليارات الريالات سنوياً من جيوبهم، وأخطر ما في هذا الأمر هو تنشئة أجيال تستمرئ هذا النوع من الاستغلال والضحك على الذقون، وأكل أموال الناس بالباطل. إن المجتمع تلقى صدور الأمر الملكي الكريم بتأسيس هيئة حماية النزاهة ومكافحة الفساد، بكثير من الارتياح، ويتطلع بشغف إلى تكوينها ومباشرة أعمالها في أقرب وقت، مع اقتراح بأن يكون ارتباطها مباشرة بخادم الحرمين الشريفين، وأن يكون جميع أعضائها أشخاصا مستقلين، وليسوا من مسؤولي الحكومة، وتمكين أي شخص من التواصل معها، بطرق تضمن له الحماية القانونية، والسرية اللازمة، لتقديم أي بيانات خاصة بالفساد. وأن يكون من ضمن أدوارها إجراء الدراسات العلمية الجادة، للتعرف على أسباب الفساد الأخلاقي والإداري والمالي في بيئتنا، والحلول المناسبة لمعالجتها، فأسباب الفساد متعددة (حضرية - سياسية - هيكلية - قيمية - اقتصادية - إدارية) وما ينطبق على بلد ما قد لا ينطبق على الآخر. وبعد: ألا يكون الفساد باتساع آثاره المتعددة والمدمرة على المجتمع بأسره أخطر من الإرهاب؟؟ وألا يستحق منا جهودا أكبر وأسرع لمكافحته؟؟