عقب هزيمة 1967 اعترف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن الطريق من السويس الى القاهرة لم يكن به عسكري مصري واحد، يوم التاسع من يونيو، بعدها سألت صحافية أمريكية موشى ديان وزير الدفاع الاسرائيلي آنذاك “لماذا لم تعبر بقواتك قناة السويس؟” فأجابها ديان بقوله :” قدرتي أن أعرف حدود قدرتي.. وأنا أعرف حدود قدرتي.. وأعرف أن عبور القناة قد يغرق الجيش الاسرائيلي في دلتا النيل الكثيفة السكان”.. أما أرييل شارون وزير الدفاع ورئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق فقال ردا على سؤال حول تزايد الانفاق العسكري الاسرائيلي رغم تفوق إسرائيل الساحق على جميع جيرانها العرب،:” إن الله يحارب الى جانب الجيوش القوية!!”. ديان يتحدث عن أهمية استيعاب حدود القوة، وشارون يتحدث عن أهمية امتلاك المزيد من القوة، فعن ماذا يتحدث العرب إذن؟!..دعونا نرى.. يمكن تلخيص المأزق العربي الراهن بأنه ناجم عن سوء تقدير لحدود القوة والقدرة،وسوء استعداد لمواجهة المخاطر الكامنة والمحتملة وحتى القائمة، لماذا؟!.. هل لأن أطرافا عربية بالغت في تقدير مدى جاهزيتها لمواجهة الأخطار، أو في مدى عجزها عن التصدي لها؟!.. وقائع التاريخ القريب تقول ذلك، فالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين اساء تقدير حدود قوته يوم اجتاحت قواته الأراضي الإيرانية في سبتمبر عام 1980 ، معتمدا على أن المؤسسة العسكرية الإيرانية قد تآكلت بفعل عمليات التطهير الواسعة في صفوفها بعد أشهر قليلة من سقوط النظام الشاهنشاهي، وكلنا يعرف الى ماذا آلت الحرب ضد طهران التي منحها عنوان “قادسية صدام” بعد ثماني سنوات من المعارك البالغة الشراسة، وصدام حسين ذاته هو من اساء تقدير حجم قوته حين غزا الكويت في الثاني من أغسطس عام 1990 بعد أقل من عامين على وقف إطلاق النار في حربه مع ايران، وكلنا يعرف بعد ذلك الى ماذا آلت الأمور بعد بناء تحالف دولي تمكن من طرد قوات صدام حسين من الكويت وواصل حربا سياسية ودبلوماسية ضده ثم حصارا طويلا على العراق انتهى باحتلاله وبسقوط صدام حسين ثم إعدامه على نحو ما نعرف جميعاً. نفس عبارة موشى ديان وزير الدفاع الاسرائيلي الاسبق قالها أنور السادات عقب انتهاء حرب أكتوبر عام 1973، فقد اعترفت جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل ابان الحرب أن الطريق كان مفتوحا أمام الجيش المصري حتى العريش، ورد السادات على من لاموه بأنه لم يطور الهجوم وصولا الى الحدود الدولية لمصر قال انه حارب اسرائيل ستة عشر يوماً لكنه لا يستطيع محاربة الولاياتالمتحدة التي دخلت الحرب الى جانب اسرائيل مشيرا الى أن القوات المصرية تمكنت من مصادرة دبابات اسرائيلية في ميادين القتال أنزلتها ناقلات أمريكية ثقيلة الى ساحة المعارك مباشرة.. أي أن السادات كان يعرف حدود قوته. كلام ديان والسادات عن حدود القوة معروف ومفهوم ويمكن تقدير مصداقيته ودقته، أما كلام العرب عن حدود القوة في الوقت الراهن فغير معروف ولا مفهوم ولا يمكن تصديقه او اسباغ الاحترام عليه، ولعل نظرة على الوضع العربي الراهن سواء فيما يتعلق بقضية السلام مع اسرائيل، أو بقضية مواجهة تهديدات نووية ايرانية محتملة، أو التصدي لتدخل قوى اقليمية غير عربية في اعادة هيكلة النظام الاقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وفق حساباتها وعلى حساب العرب، لعل مثل تلك النظرة تعيدنا الى السؤال الأول.. هل ثمة إدراك عربي واع ودقيق لحدود القدرة العربية؟ وبعبارة أكثر بساطة هل ما تحصده السياسة العربية أو الادارة العربية للصراع الاقليمي الآن هو الحد الأقصى لما يستطيع العرب مجتمعين أو حتى فرادى الحصول عليه؟ لا يساورني أدنى شك في أن كثيرين في العالم العربي سواء في موقع القرار أو على مقربة من رؤوس وآذان صانعيه، يدركون ويعرفون أن حصاد الآلة السياسية العربية أقل بكثير من قدرة تلك الآلة ومن الإمكانيات الكامنة لديها، وأن ثمة مأزقا سواء فيما يتعلق بتقدير حدود القوة، أو بالقدرة على الاستخدام الجيد لها، واذكر أن مسؤولين في غير دولة عربية اعترفوا بالتصريح تارة وبالتلميح تارات بأن ما تنجزه دبلوماسيتهم اقل بكثير مما ينبغي أن تحققه. ثمة مأزق عربي إذن في شأن إدراك حدود القوة، وثمة مأزق آخر تابع له بشأن القدرة على استخدام القوة المتاحة لتحقيق أهداف محددة خلال زمن مقدر، المأزقان في الغالب “ثقافيان” أي مصدرهما سوء فهم عربي لمفهوم القدرة والقوة، وحاجة عربية ماسة الى إعادة تعريف كلا المفهومين، ولعل أداء الدبلوماسية العربية فيما يتعلق بملف السلام في الشرق الأوسط وإدارة العلاقات مع القوى العظمى، يعكس بجلاء عمق هذا المأزق الثقافي وفداحة الثمن المدفوع لأجله. فالقدرة والقوة ليست فحسب في مستوى التسليح لدى طرف عربي أو آخر، ولا في القدرة على التلويح بالسلاح كلما بدا أن مصلحة عربية ما مستهدفة من قبل آخرين خارج المنطقة أو داخلها، الغرب يسلم ثقافيا باستعداده للتعامل على الدوام مع حسابات القوة وهو لا يفهم سواها، وهو مستعد لتقديم تنازلات جوهرية اذا أمكن اقناعه بأن عدم التنازل او عدم ابداء المرونة سيقود الى خسائر افدح من قيمة التنازلات المطلوبة لكن النظام الاقليمي العربي لا يبدو مؤهلا للتلويح بما تحت يده من قدرات لم يستوعب حتى اللحظة أنها “قدرات” ولا أنها قابلة للاستخدام والتأثير، أما المأزق العربي الآخر في شأن حدود القوة ومدى القدرة على توظيفها لخدمة القضايا الحيوية العربية فمصدره في الغالب قصور في أداء مؤسسات القرار العربي سواء على مستوى الدول أو على مستوى التنظيم الإقليمي العربي، وهذا المأزق الأخير قد يكون الأفدح، ولا مخرج منه بغير إصلاح يضع الشعوب في الاعتبار الأول، ويفتح الباب واسعا أمام مشاركة أوسع في عملية صنع القرار، فالمواطن الشريك هو عين الوطن وهو ذراعه الطويلة إذا لزم الأمر.