أكد الدكتور ابراهيم ناصر الحمود الاستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء وعضو مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية ورئيس وحدة البحوث العلمية في المعهد أن الانفتاح مع فقه الواقع ليس وليد اليوم وأن هذا من ميزات الفقه الإسلامي الذي يتسم بالمرونة .. وعن استخدام وسائل ليعترف المجرم بجريمته اوضح انها لا تجوز شرعا بل لها اثار سلبية ، وان محضر الشرطة وما يورد فيه ليس حجة بحد ذاته ولكنه خير معين وقد يستغني عنه القاضي. * وعن سؤال حول اختلاف العمل بالقرائن والحكم في ذلك يوضح ان القرينة : هي العلامة الظاهرة المقارنة لشيء خفي تدل عليه ، كما في قوله تعالى « وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم» يوسف ( 27 ، 28 ) والعمل بالقرائن في إصدار الحكم الشرعي محل خلاف بين العلماء : وكثير من المتقدمين لم يتعرضوا للقرينة بنفي ولا إثبات ، وأكثر العلماء يرون جواز العمل بالقرائن ، بل نقل ابن قدامه – رحمه الله – إجماع الصحابة - رضي الله عنهم – على ذلك ، والقول بجواز العمل بها هو الصحيح ، فالقاضي يعمل بالقرينة القوية في حال عدم وجود أدلة مباشرة أقوى منها ، لأن عدم العمل بالقرائن القوية مع عدم وجود الدليل يؤدي إلى ضياع الحقوق ، وهي نوع من البينات ، والقول بالجواز لا يعني التوسع في العمل بها وإنما كلما دعت إليها الحاجة . * ما هو نظام القضاء في المستندات الخطية ؟ القضاء بالمستندات الخطية نوع من طرق الإثبات إذا كانت الكتابة مصدقة أو عرف الكاتب وعرف خطه ، والكتابة لإثبات الحق مشروعة كما ورد في آية الدين وحديث الوصية ، والحاجة داعية إليها . لما في ذلك من ضمان الحقوق وبراءة الذمم . والعمل بالمستندات الخطية الرسمية هو ما نص عليه نظام القضاء والأعمال الإدارية في المملكة بشرط سلامتها من التزوير . ويعمل بها القاضي في حال عدم وجود ما هو أقوى منها من الأدلة كالإقرار والشهادة . * هل للقاضي المصادقة والاقتناع بمحضر الشرطة ؟ محضر الشرطة هو صورة صادقة لما يتم من إجراءات ، وهو أعم من التقرير ، وللقاضي سلطة الاقتناع بما في المحضر أو عدم الاقتناع به ، فالمحضر ليس بحد ذاته حجة على ما ورد فيه ، لكنه خير معين للقاضي في التعرف على ملابسات القضية ، وقد يوجد من القرائن ما يعارض المحضر ويترجح للقاضي خلافه فيحكم بما أدى إلى اجتهاده . * هل تحاليل الدم تغني عن القيافة وعن اللعان في إثبات النسب ؟ تحاليل الدم المخبرية ليست على درجة واحدة فما كان منها لإثبات فصيلة الدم أو التعرف على نوع المرض فهذه حجة من الناحية الطبية. ويستأنس بها القاضي عند الحاجة . أما في حال إثبات النسب : ففي تعذر الإقرار أو الشهادة كان الناس في السابق يعتمدون على القيافة بناء على الشبه الذي يدركه الخواص من الناس. أما اليوم ومع تطور العلم في العصر الحديث فلم يكن هناك حاجة إلى القيافة في إثبات النسب ، حيث تم اكتشاف العلامات الوراثية عن طريق تحاليل الدم المخبرية ، فالدم يشتمل على العديد من الصفات الوراثية الموروثة من الأبوين ، فالولد يأخذ نصف الصفات من أبيه والنصف الآخر من أمه ، ولكل إنسان صفات في دمه تميزه عن غيره ، ولا يحصل تشابه بين اثنين إلا في حال التوأم ، لأن أصلهما بويضة واحدة وحيوان منوي واحد ، ويسمى هذا العلم الحديث بالبصمة الوراثية ، وهي الموروثات التي تدل على كل إنسان بعينه ، فيمكن عن طريق تحليل الدم معرفة النسب الصحيح ، فيعتمد على قرينة اختلاف فصائل الدم في نفي النسب ، وهذا لا يعارض مشروعية اللعان فهو حكم مستقل بذاته في حال قذف الزوج لزوجته ، ويجاب إليه الزوج إذا طلبه فهو حق من حقوقه . ويرى بعض الفقهاء أنه إذا ثبت عدم لحوق النسب للزوج بواسطة العلامة الوراثية فلا حاجة إلى اللعان ، والأول أولى. أما في حال التوافق في فصيلة الدم بين الطفل ومدعيه فإلحاقه به من باب الاحتمال ،لأن الفصيلة الواحدة قد يشترك فيها كثير من الناس ، ولهذا يقول العلماء : إن فصائل الدم قرينة قاطعة في نفي النسب لا في إثباته . بخلاف البصمة الوراثية ( الحمض النووي ) فليست محلا للاشتراك . ومتى ثبت النسب بطريقها فترد دعوى الزوج بنفي النسب ، ومن الأولى أن يحيل القاضي الزوجين إلى فحص البصمة الوراثية قبل اللعان ، لأن اللعان مشروط بعدم وجود بينة ، كما لو صدقته الزوجة فلا لعان . * هل يجوز استخدام الوسائل الحديثة كالعقاقير والتنويم المغناطيسي والضرب ليقر المتهم بجريمته ؟ استخدام الوسائل الكفيلة بإقرار المتهم من غير إلحاق الضرر به جائز شرعا ، وهذا لا يكون إلا إذا غلب على ظن القاضي إدانة المتهم ، وقد قيل : المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، وفي نظري أن التنويم المغناطيسي وبعض العقاقير لها آثار سلبية ، ولا يقدر هذه الآثار إلا أهل الاختصاص . فلا يجوز استعمالها للحصول على إقرار المتهم بارتكابه الجريمة ، لأن الإقرار لابد أن يكون صادرًا عن إرادة واختيار. أما الضرب : فقد ذكر الماوردي – رحمه الله – أنه يجوز أن يضرب المتهم – في حال قوة التهمة– ضرب تعزير لا ضرب حد خاصة إذا عرف المتهم بالفسق والفجور . ولم يكن هناك وسيلة أخرى يتوصل بها إلى إقراره . لأن ذلك يحمله غالباً على قول الحق . * هل أصبح على القضاة الانفتاح مع فقه الواقع ؟ الانفتاح مع فقه الواقع ليس وليد اليوم ، ففي عهد عمر الفاروق – رضي الله عنه – حدث أن حكم بإسقاط حد السرقة في عام المجاعة تمشيا مع ظروف الحال ، لأن الحد يسقط بالشبهة ، وهذا من ميزات الفقه الإسلامي الذي يتسم بالمرونة وعدم التعصب ، فباب الاجتهاد في المسائل الاجتهادية مفتوح على مر السنين ولا يختص بزمن دون زمن ، والقضاة في العصر الحاضر مهتمون بهذا الجانب ، ومن يتهمهم بخلاف ذلك يريد منهم الاجتهاد في المسائل النصية ، وهذا خطأ ظاهر ، لأنه لا اجتهاد مع النص ، أليس ما يجري الآن من أحكام في حوادث السيارات ، وعقود المقاولات والمناقصات التجارية ، والأسهم وشركات التقسيط وغير ذلك من الأمور المستجدة أليس ذلك من فقه الواقع . لكن ينبغي أن يعلم بأنه لا سلطة لفقه الواقع على ما فيه نص قطعي ، لأن ذلك لا يتغير بتغير الزمان . فعلى سبيل المثال لو كان واقع الكثير من الناس اليوم التعامل بالربا هل يفتى بالجواز تمشياً مع الواقع ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم . * كيف تنظر لمستوى خريجي العلوم الشرعية في الوقت الحاضر ؟ هم في نظري على مستوى طيب -والحمد لله- ، وإن كنا نأمل في المزيد من الارتقاء بهذا المستوى ، ليكونوا أكثر إحاطة وإلماما بالمسائل الشرعية ، وخاصة فقه النوازل ، الذي أصبحت الحاجة إليه ملحة ، وكذلك معرفة الفروع الفقهية من مظانها بواسطة البحث العلمي المتخصص ، لاسيما وأن الإمكانات العلمية والبحثية اليوم متوفرة أكثر من ذي قبل ، وكلما تحسن مستوى طالب العلم الشرعي فهذا ينعكس إيجابا على القضاء والفتيا والتعليم الجامعي. * ما الأمور التي تنصحون بها طالب العلم الشرعي ليكون مؤهلاً للقضاء ؟ من أهم الأمور : كثرة الاطلاع في أمهات الكتب في التخصص ، والاهتمام بالجانب التطبيقي الذي يزيد من ثقة الطالب بنفسه ، ويدفعه إلى تحري الصواب ، فالعلم النظري وحده لا يكفي ، وحضور حلقات النقاش العلمي وورش العمل ، ومخالطة العلماء الذين لهم باع طويل في العلم الشرعي ، وقد قيل «من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه» . و الاطلاع على السوابق القضائية في بعض المسائل المشكلة لعدد من القضاة ، لمعرفة موقفهم منها ، وهل هناك ما يدعو إلى التغيير أو الإضافة .هذه أهم الأمور التي أنصح بها طالب العلم الشرعي .