ما أن فرغت من كتابي حول الركب المكي، الذي تعرضت فيه لمكة المكرمة، وأهلها، وشعابها، وآثارها، ومؤذنيها، ومزهديها، ومجتمعها في القرن الماضي، حتى دعاني بعض علمائها ومفكريها؛ ليكرموني، وتذاكرنا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أن فاض الحديث، حتى صرخ أحد الجلوس وسقط مغشيًا عليه. لم أكن أعرف ما حدث، فسألت عنه فقيل بأنه أصيب بالوجد، ولم أكن أعرف معنى الوجد، فبحثت عن ذلك في اللغة، فوجدت أنه النفس وقواها الباطنة، وأن الوجد من الوجدانيات، أي ما يجده كل واحد في نفسه وما يدركه بالقوى الباطنة لكن هذا التعريف اللغوي لم يشف غليلي. ولأني سلفي المشرب، فزعت إلى ما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وبحثت عما قاله في الوجد الذي يصيب الرجل، فوجدته يعرفه بالقول “هو انقطاع القلب عما حوله من المحسوس بالغيب في نور اليقين فيرى ما لا يراه الناظرون” وتذكرت ما قيل: بأن الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا. ثم وجدت ابن تيمية يقول: إذا رأيتم من أصيب بالوجد فإن كان متبعًا لما أمر الله ومنتهيًا عما نهى، فاعلموا أنه ولي، وإن رأيتموه على خلاف ذلك، فاعلموا أنه مرائي شيطان فاحذروه، وأن الأنبياء منهم: من صعق مثل موسى -عليه السلام- عندما تجلى ربه للجبل، ومنهم: من ثبته الله مثل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عند سدرة المنتهى. وسألت نفسي يومًا، لماذا إذا قرأت القرآن لم أعد أبكي ولم أتباك إلا ما ندر، ولماذا لم أجد ذلك في أيامنا هذه، هل قست قلوبنا فلم تعد تخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟ هل أصبحنا من الذين يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم؟ وقتها أدركت لماذا تفشت الجريمة في مجتمعنا، وانتشر الفساد بيننا، وظهر الإرهاب، فأزهق الأرواح ودمر الممتلكات؛ ليحقق أغراضًا سياسية. تذكرت يوم قال عليه الصلاة والسلام: “لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، وما تقاررت جنوبكم إلى المضاجع، وما تلذذتم بالنساء، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى” فصرخ أحد الصحابة ووضع يده على رأسه وخرج هاربًا ثلاثة أيام هائمًا في الأودية والجبال، وقيل إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه. روت عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا تغير الهواء، وهبت ريح عاصفة، تغير وجهه، فيقوم ويتردد في الحجرة، ويدخل ويخرج خوفًا من عذاب الله، وروى ابن عدي والبيهقي أنه قرئ عنده:“إن لدينا أنكالًا وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا” فصعق عليه الصلاة والسلام. فإذا كان سيد البشر الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يصعق عندما يستمع إلى آية من كتاب الله، فكيف نحن الذين لا ندري ماذا يفعل بنا إلا أن يتغمدنا الله برحمته، ألم يرو الترمذي وأبو داود في الشمائل والنسائي في حديث عبدالله ابن الشخير أنه -صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم- إذا دخل الصلاة سُمع لصدره أزيز كأزيز المرجل. كان -عليه الصلاة والسلام- يروي لأصحابه عن خوف الملائكة المقربين من غضب الله وعذابه فقال:“ما جاءني جبريل قط إلا وهو ترتعد فرائصه من الجبار” وفي رواية لابن عباس أن جبريل -عليه السلام- يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى، ترتعد فرائصه فرقًا من عذاب الله. ويروي أحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين، أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم- سأل جبريل قائلًا: مالي لا أرى ميكائيل يضحك، فقال جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار. وفي رواية ثابتة عن مالك بن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- سأل جبريل عن إسرافيل: فقال مثل ما قال عن ميكائيل. أما محمد بن المنكدر فقد قال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها، فلما خلق بنو آدم عادت نفوسهم. فقد كانوا يظنون أن النار خلقت لهم، ومع ذلك فإن الابتسامة غابت عنهم مخافة أن يغضب الله علىهم فيعذبهم بها. إن الله -عز وجل- لم يخالل أحدًا إلا إبراهيم -علىه السلام- وكان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يسأل الله -عز وجل- المخاللة، حتى جاءه جبريل ذات يوم فبشره بأن الله -عز وجل- اتخذه خليلًا فلا ينبغي له أن يخالل أحدًا، فسجد شكرًا لله، وفي مكان السجدة، بني مسجد أبي ذر بالمدينة المنورة، وهو القائم شمال المسجد النبوي اليوم. وخليل الله إبراهيم كان إذا قام للصلاة وسجد، يسمع لوجيب صدره من مسيرة ميل خوفًا من ربه، فيأتيه جبريل فيقول له: إن ربك يقرؤك السلام ويقول: هل رأيت خليلًا يخاف خليله، فيقول: يا جبريل إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي، وهذا ما رواه أبو الدرداء. أما داوود -عليه السلام- فقد ظل أربعين يومًا ساجدًا لله لا يرفع رأسه، وكانت دموعه تنهمر من خشية الله، حتى نبت المرعى منها وغطى رأسه، ومع هذا لم يكن يرفع رأسه إلى السماء حياءً من ربه. كان داوود يناجي الله -عز وجل- ويقول: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت على الأرض بما رحبت، وإذا ذكرت رحمتك عادت إلىّ روحي، سبحانك يا إلهي أتيت الأطباء من عبادك ليداووا خطيئتي، فكلهم علىك يدلوني، فبؤسًا للقانطين من رحمتك. أما أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت أحوالهم عجيبة لا يخففها إلا رؤية الحبيب عليه الصلاة والسلام، فقد كان عمر -رضي الله عنه- إذا سمع آية سقط مرتطمًا بالأرض مغشيًا علىه، وكان يعاد أيامًا، فيقول لزائريه: يا ليتني كنت تبنة، يا ليتني لم أكن شيئًا مذكورًا، يا ليتني كنت نسيًا منسيًا، يا ليت أم عمر لم تلد عمر، كان -رضي الله عنه- يقول: من خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد. أما علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقد عاد يومًا من صلاة الفجر، فعلته كآبة وأخذ يقلب كفيه فسألوه عن ذلك، فقال: لقد رأيت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أر اليوم شيئًا يشبههم، كانوا يصبحون شعثًا، صفرًا، غبرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعيز، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، إذا أصبحوا ذكروا الله، فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم من الدموع حتى تبلل ثيابهم، والله فكأن بالقوم باتوا غافلين، فما رؤي بعد ذلك ضاحكًا حتى ضربه بن ملجم بالسيف على جبهته، فخضبت لحيته بدمائها ومات. لقد أدرك -كرَّم الله وجهه- أن التقوى إذا ضعفت قست القلوب، وإذا غابت الخشية من الله كثر الفساد، وإذا ذهب الخوف من رب العباد انتشر القتل والإرهاب، فكان -كرَّم الله وجهه- أول ضحاياه. كان علي زين العابدين -رضي الله عنه- إذا توضأ، علته صفرة غيّرت لون وجهه، وأخذته رجفة، وانهمرت عيناه بالدموع، فكانوا إذا سألوه ما بك؟ قال: أتدرون بين يدي من سأقف؟ إني سأقف بين يدي الله سبحانه وتعالى. هل بلغكم كيف لقي المسور بن مخرمة ربه؟ كان -رحمه الله- لا يقوى أن يسمع شيئًا من القرآن لشدة خوفه، فإذا قرئت الآية صرخ وقام يستغفر،، فجاءه رجل من خثعم فقرأ عليه قوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) فقال أنا المجرم، ولست من المتقين، أعد عليَّ أيها القارئ، فعادها علىه فشهق شهقة فمات من ساعته. إذا أردنا أن نتعرف على الخائفين من الله، وجدناهم خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظمأ، عمش العيون من البكاء، لكن الله تلطف بعباده، وألقى علىهم ثياب الغفلة، حتى لا تنصدع قلوبهم، يقول عمر بن عبدالعزيز: إنما جعل الله هذه الغفلة في قلوب العباد رحمة، كي لا يموتوا من خشية الله. تعرض فتى من الأنصار خشية من النار، فكان يبكي حتى حبسه ذلك في البيت، فقيل للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذهب إليه، واعتنقه فخر الفتى ميتًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-:“جهزوا صاحبكم فإن الخوف من النار فتت كبده” رواه ابن أبي الدنيا في الخائفين من حديث حذيفة والبيهقي في الشعب من حديث سهل بن سعد الساعدي. وهناك من الخائفين من قتلهم الوجل من رهافة إحساسهم ورقة قلوبهم، روي أن زرارة بن أبي أوفى، كان شديد الخشية من الله سبحانه وتعالى، فصلى بالناس الغداة فلما قرأ (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) خر مغشيًا عليه فحمل ميتًا. أما صالح المري فيقول: قرأت القرآن على رجل من المتعبدين فلما بلغت قوله تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) صعق ثم أفاق فقال: زدني يا صالح فإني أجد غمًا فقرأت (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) فخر ميتًا. وتمر القرون تلو القرون، والتقي بالشيخ عبدالوهاب عرب في لبنان عندما كنت مساعدًا لقائد الردع السعودية، وكنت أصحبه إلى المواقع وكان يحدثني ويقول: لقد عشت طويلًا مع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- ورجاله، فكنت أشاهدهم بالهزيع الأخير من الليل، يصلون ويبكون حتى تبتل الأرض من دموعهم. وذات يوم وفي إحدى الندوات حدثني صديقي الشيخ فيصل بالي الذي نشأ وتربى بجوار المسجد النبوي، بمنزل أبى أيوب الأنصاري، أنه عندما كان طفلًا نهض الصباح فوجد والده يبكي وحوله والدته وإخوانه، وهم يخففون عنه، فسأل والدته لماذا يبكي أبي وأنا لم أشاهده يبكي؟ فقالت لقد فاتته صلاة الفجر في الجماعة، فهو يقول لو أن الله فبضني اليوم ماذا أقول له؟ ما إن سمعت هذه القصة حتى انتظمت في صلاة الفجر وكل الصلوات مع الجماعة ولم أتركها إلا لعذر أو سفر، إن العيش مع الصالحين ومعرفة أحوالهم، تذهب عنا قسوة الحياة وماديتها، وتشيع التقوى والخوف من الله عز وجل، لأن التقوى هي الصيانة الذاتية للمسلم، وحصنه الحصين. •رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية