عاطف بهجات (*) لا شك في أن النقد يحظى بكثير من مصداقيته، عندما تستقر مصطلحاته، وتكون واضحة المفاهيم والأبعاد للمبدع والناقد والقارئ معًا، بحيث يرتضي كل منهم معيارًا يمكن الرجوع إليه في إيضاح الصورة، وتوصيل الرسالة، وضبط التأويل. وإشكالية التجنيس تثير جدلاً نقديًّا من القِدم منذ أفلاطون وأرسطو وهوراس في التقسيم الثلاثي للشعر: شعر -ملحمة- دراما.، ثم ارتبط التجنيس من جديد بنشأة الرومانسية وحلقة «IENA» بألمانيا، وارتكز إلى ثورة على قيود الأجناس، وسخط على إهمال الذات والوجدان. ولقد تواصل اتجاه الرفض هذا مع الشاعر الفرنسي «هوجو» وتطور حتى بلغ أوجه مع الإيطالي «بنيديتو كروتشه» الذي أعلن موت الأجناس وميلاد ما سماه «هنري ميشو» الأثر الكلي الذي يحتوي الأجناس جميعها، ويختزلها لكي يتجاوزها ويتعالى عنها « (1). ورغم ذلك فإن من أوْلَى المصطلحات بالمعيارية في الأدب والنقد مصطلحاتِ التجنيس، التي تخط الطريق أمام أطراف العملية الإبداعية، وتسهم في كيفية تلقي العمل، والتفاعل معه، بعيدًا عن أزمة فقدان هوية المنتج الإبداعي، التي يتحايل عليها كثيرون تحت عنوان (نصوص أدبية)؛ اعتقادًا منهم بأن الإبداع مجال مفتوح على الإطلاق يرقى فوق تحديد الجنس، وقيود التجنيس. إن هذا الأمر قد يؤدي إلى فوضى إبداعية غير خلاقة تؤدي إلى تمازج الطعوم بدرجة لا تمكننا من تمييز أحدها، مع أننا لم نستبعد -نقديًّا - على مستوى النقد العالمي والعربي - حرية المبدع في كسر نسق الجنس، من خلال تلاقح الأجناس الأدبية، أو ما يعرف بالكتابة عبر النوعية، فكأننا نُطَعِّم الجنس الأدبي بما يحتاجه من الأجناس الأخرى، مع احتفاظ كل منها بطبيعته. من هذا المنطلق نحترم وجهة نظر جبير المليحان عندما أصدر مجموعته القصصية (قصص صغيرة)، وتبنّي مصطلح قصص صغيرة بدلاً من قصص قصيرة مُقدِّمًا تكييفًا وتوصيفًا لمصطلحه الجديد. فالرجل من حقه أن يتبنى - في الإبداع - وجهة نظر؛ لكونه مبدعًا، متعددَ مجالات الإبداع، ومن حقنا - متلقين ونقادًا - أن نمعن النظر في مصطلحه الجديد؛ حتى نتفق أو نختلف معه. إن هذا المصطلح يمكن قبولُه؛ بحكم أن الأدبَ وسيلة من وسائل التنفيس، والتعبير عن مكنون الذات، بمعنى أنه مصطلحٌ نفسي انفعالي بالدرجة الأولى. ولعل هذا ما جعل جبيرًا يبدي وجهة نظره في مصطلح القصة القصيرة ومصطلحه الجديد فيقول: «إنها شفافة وعميقة كالشعر، ولكنها فاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن، إنها ألم في القلب: أكبر من الوخز، وأصغر من عملية جراحية. هي كطعنة خنجر؛ صغيرة وقاتلة. «فنتازيتها» في كونها فاجعةً صغيرة، مكثفة، وغير متوقعة، ولكنها اختصار كبير لحياة ما«.(2) لقد أصبحنا أمام عملية إبداع مشترك، لا تُنكر دور المتلقي في إنتاج المعنى المرهون بالشعور: حزنًا، بكاءً، ألمًا. وصار المصطلح معتمدًا بالدرجة الأولى على تأثير الأدب في النفس البشرية، إضافة إلى بعض السمات الفنية مثل التكثيف والمفاجأة والاختصار، والمصطلح بذلك صار قسيمَ المبدع والمتلقي معًا، ولعل هذا ما يريده جبيرٌ، ويعلن عنه في رغبته لإشراك المتلقي في عملية إنتاج المعنى. ويلفتنا أيضًا أن المصطلح - بالتكييف الذي قدمه جبير - مصطلح رومانسي بالدرجة الأولى؛ لأنه يتكئ على التلقي العاطفي للقصة القصيرة، فصارت القصة إبداعًا عاطفيًّا، وتلقيًّا انفعاليًّا في الوقت نفسه، بما يعيدنا إلى تجدد أزمة التجنيس الأدبي مع ظهور الرومانسية في الأدب الحديث، حيث لا يغيب عنا أن الرومانسية تُعلي من شأن الذات والعاطفة والشعور. ولعل هذا المنطلق هو ما يجعلنا نقبل ما قدمه لنا جبير من تكييف للقصة القصيرة الصغيرة، ويجعلنا نقبل هذا المصطلح بحكم ارتباطه بهذه المجموعة على وجه التحديد، وإن كنا نتحفظ عليه مصطلحًا نقديًّا؛ لأنه مصطلح انفعالي زمني أمام مصطلح كيفي معياري (قصة قصيرة) يمَكّننا من الحكم على الجنس الذي ينتمي إليه. من القصص الصغيرة في المجموعة: عشر قصص صغيرة بعنوان (الطفل يريده: اللون الأبيض)، وصغرُها ينبع من كونها تعبر عن وجهة نظر الإنسان/ المبدع في الحياة، وتعكس شعور الإنسان بالخوف والقهر، ولا يجسد هذا الشعور أفضلَ من طفل، حيث يتعاظم لديه كلُّ شئ نتيجة إحساسه بالضعف. يقول جبير في القصة الخامسة من هذه المجموعة: “أمسك الطفل يومًا بالجريدة، وقرأ طبق اليوم: مخ، وأذنا إنسان مقليتان، مع لسانه وعينيه، وفلافل وملح، فصام حتى مات.« (3). فهذا المقتبس يعكس لنا خوف الإنسان من خلال ظاهرة: المفارقة والثبات، المتمثلة فى تحول الإنسان طفلاً، وبقائه طفلاً حتى الموت بعد صومه عندما رأى أشلاء الإنسان على مائدة الطعام، الأمر الذي يعكس تدني قيمة الإنسان في العصر الحديث؛ مما ولّد عنده الرغبة في الارتداد إلى مرحلة الطفولة والثبات عليها. ويلح جبير على هذا التصور في القصة التالية مباشرة عندما يقول: «الطفل في سريره ينام، وضحكته كانت تحاور القطة في ساحة البيت، وتلعب معها. سيارة سوداء تأتي تولول، وتضع الضحكة فوق نعش، وتذهب. الطفل لم يستيقظ أبدًا«. نحن أمام نص يجسد اغتيال السعادة في مهدها لحظة التكوين / ضحكة الطفل، التي اختطفت - كما يبدو من سياق القصة - في حادث سيارة حقيقي أو متخيَّل لا فرق، لأن ما يعني جبيرًا هو لحظة النهاية المتمثلة في موت الطفل / الإنسان، وما ترتب عليها من اغتيال السعادة. هاتان بالفعل - على سبيل التمثيل - قصتان صغيرتان مفجعتان.. مؤلمتان.. طعنتا خنجر، ولكن صغرَهما نابعٌ من ارتباطهما بمرحلة الطفولة، التي لا تُعد مرحلة دائمة في حياة الإنسان إلا في ظروف خاصة، فمن الطبيعي أن يتدرج الإنسان في مراحل العمر بعد ذلك: شباب - رجولة - كهولة - شيب..، فهل سيتغير المصطلح (قصص صغيرة) مع تغير المراحل العمرية؟! إن ما يجعل هذا المصطلح مقبولاً في هذه القصص فكرة الثبات التي أشرت إليها - سلفًا - حيث بقي الإنسان طفلاً، ويبدو أن هذا الافتراض كان حاضرًا في ذهن جبير، عندما أطلق هذا المصطلح على قصصه تلك.، ويعزز هذه الفرضية مجموعة قصص أخري بعنوان (رثاء) وعددها إحدى وعشرون قصة. ويبدو لي أنه لا فرق بين الطفل في القصتين السابقتين وعبدالله الشخصية الحاضرة في مجموعة رثاء، حيث إن الخط العام المسيطر على الشخصية هو حركة الزمن العكسية المرتدة إلى الماضي. ففي قصة (صورة)(4) يقف عبدالله مهموما أمام صورته في المرآة عندما يقارن بينها وبين صورته وهو صغير؛ فيتولّد في نفسه شعور عدائي إزاء الحاضر. يقول جبير في بداية القصة: (عضّ عبدالله الصورة (وجهه وهو صغير) حتى تقطعت)، ثم يقول في جملة الختام: (عبدالله ينخرط، بنشيج، باكيًا، طفله الممزق). فتقطيع صورة عبدالله الطفل رفضٌ لملامح عبدالله الرجل الكبير، هذه الملامح التي يكسوها الوهن والهم والديون وخيبات الأمل، فأكل صورة الطفل الممزقة، وكأنه يريد أن يعيش هذه المرحلة من جديد (لماذا تأكل الصورة يا أبي.. إنها قديمة؟!).. اندمج عبدالله بكل مشاعره في مرحلة الطفولة، وفقد الإحساس بالزمن؛ حتى أفاقته جملة (إنها قديمة)؛ فاستعاد وعيه من جديد، وانخرط باكيًا حياته الحاضرة التي لا يرضى عنها، وحياته الفائتة التي لا سبيل إلى رجوعها. ونلمح هذا الخط في قصص: رائحة - تك تك - مكان - برق - سجن - حساب - صحف - زمن. وكلها بطلها شخصية واحدة (عبدالله)، ولا تخفي علينا الدلالة العامة للاسم، التي تنسحب على الانسان عمومًا أكثر من ارتباطها بشخصية بعينها، فكلنا عباد الله.، وما بقي من قصص الرثاء كان بطلها ضمير الغائب، ولا فرق عندي بين عبدالله وضمير الغائب، فكلاهما يعود على الانسان، وكأن جبيرًا يناقش في هذه القصص التحوّل والصيرورة من خلال حركة الزمن في الإنسان، في صورة تعيد إلى الأذهان رثاء الذات في أدبنا العربي القديم. بقي القول إن شهوة المبدع في سك مصطلح جديد لم تحُل دون توفر خصائص القصة القصيرة في معظم قصص المجموعة التي تميز فيها جبير بحس فني واعٍ، ودراية بطبيعة القصة القصيرة بما فيها من تكثيف وشعرية كما في قصتيه (ثلاثة وطريق) بما فيهما من سيمترية فنية بين البناء والإيحاء، توازى فيها االشكل مع المضمون، حيث تأتي الجمل المتتابعة في القصة الأولى دون رابط بينها؛ لتجسد حركة عجلات القطار المتسارعة المتتابعة، وهي في الوقت نفسه حركة الزمن الذي يمشي فينا. وفي القصة الأخرى تتجلى السيمترية في توظيف حرف العطف (الواو ) بشعرية واضحة، حيث تتوازى دلالته - بما فيه من تراخٍ - مع حركة المرأة وهي تضع أشياءها في الحقيبة، وفترات التذكر التي يعيشها الرجل أثناء لحظة الوداع - بما فيها من ثقل نفسي نابع من بطء حركة الزمن والرغبة في ثباته؛ حتى لا تأتي تلك اللحظة. وهكذا فإن جبيرًا قد كتب القصة القصيرة وهو يقدم لنا القصة الصغيرة. ويبقى لدي سؤال برئ أتوجه به للمبدع جبير المليحان: هل سيكبر هذا المصطلح يوما ما؟ -------------- هوامش: (1) نظرية الأجناس الأدبية - كارل فييتور و آخرون - تعريب عبدالعزيز شبيل - النادي الأدبي بجدة - ط 1 - 1994م - مقدمة المعرب - ص 7 ،8 . (2) جبير المليحان قصص صغيرة - النادي الأدبي بالجوف - 2..9 - ط1 ص5 . (3) السابق - ص36 (4) السابق ص51 . ووردت مجموعة رثاء بين صفحتي : 49 ، 73 . (*) أستاذ النقد الأدبي الحديث المشارك بجامعتي عين شمس والطائف