مَن هم أولئك الأشخاص الذين يقومون بإيذاء أنفسهم والآخرين؟ إنهم ليسوا أي أشخاص.. هم أشخاص تعرّضوا للإيذاء الجسدي أو النفسي سابقًا، فأصبحوا قادرين عليه. متى يكون باستطاعة الإنسان أن يؤذي نفسه أو غيره؟ فقط عندما تكون لديه ترسبات عميقة من الغضب والألم والإحباط، فالذين يقومون بإيذاء أنفسهم، ومَن حولهم هم أناس تعرّضوا لذلك أولاً من قِبل الآخرين، والذين يحسنون لأنفسهم، ولمَن حولهم هم أناس مشبعون وجدانيًّا واجتماعيًّا وماديًّا من قِبل الآخرين. حين يكون الإنسان غاضبًا، ومجروحًا، ومهانًا، ومستشعرًا قلته في أعين مَن حوله، سيجد أنه باستطاعته أن يؤذي نفسه بسهولة، وبلا ألم، فحتى لو جرح جزءًا من جسده لن يشعر بألمه؛ لأن ألم روحه هو الأقوى والأعلى صوتًا من ألمه الجسدي، هو لا يسمع صوت جسده، بل قد لا ينطق جسده لأنه مبهور بألم الروح الذي يراه أمامه؛ فيخجل من أن يئن ويعلن عن وجعه الصغير في ظل وجود هذا الوجع المهيب الهائل. حينما تكون النفس موجوعة، والروح مجروحة، والمشاعر مثقلة، والآمال محبطة، سيكون كي جزء من الجسد مثلاً كشرب كأس من الماء.. لا يوجع، ولا يعطي شعورًا. يستطيع الإنسان إخراج شوكة من كفّه أو قدمه بلا مبالاة في قمة مشاعر حزنه وإحباطه، وكأنّه يخرج زبدة من وعائها، لا شعور.. لا ألم.. لا اهتمام. بينما لو أرضاه مَن حوله، لو كان محبوبًا، مرغوبًا، ومرفهًا، ومنعمًا، مقبولاً، ومقدرًا؛ لأصبحت شكة الدبوس تلك مؤلمة كقطع سكين جارحة، ولأصبحت الكية الصغيرة حروقًا من الدرجة الأولى، ولشكا جسده من أي ملامسة غير رؤوفة به. هنا يكمن الفرق بين مَن يموتون في حوادث طرق هم الطرف غير المتسبب فيها، وبين مَن يموتون في استعراضات «الطعوس» البرية، وسباقات الطرق الطويلة التي يقومون هم بها، وهنا يكمن الفرق بين مَن يموتون في فلل وشقق فارهة، ميتة طبيعية في منافيهم، وبين مَن يفجّرون أنفسهم في حافلة ملأى بأعدائهم، وهنا يكمن الفرق بين مَن ينفقون المال لتعاطي أو بيع المسكرات والمخدرات والمحرّمات، وبين مَن ينفقونه لمساعدة المحتاجين والفقراء وإسعاد الآخرين. هذه الفروق تكمن في مشاعر اسمها «الغضب والألم والإحباط والحزن» تتولد عن إيذاء جسدي أو نفسي لشخص من قِبل شخص أو أشخاص آخرين، ويتولد عن هذا الأخير تعطيل مؤقت أو دائم لنقاء الروح أو لخيرها، أو لتفاعلها الإيجابي مع أفراد ومعطيات المجتمع من حولها، ويصدق على مثل هذه الحالات قول الشاعر: «ما لجرح بميت إيلام».