بالنظر إلى السينماتوجراف بصفتها آلة السينما الأولى أو بالنظر إلى الفكر العلمى والتقني الذى يقف وراء اختراعها فإننا سنجد أن السينما فى بداياتها بوجه عام ذات "صبغة عولمية" فبالإضافة إلى أن الأفلام التى يتم تصويرها سرعان ما صارت تنتمى إلى بلدان العالم المختلفة وتعرض فى مختلف البلدان، فإن التوجه الفني فيها راح ينتقل من بلد إلى بلد، كذلك فإن الجمهور كان يفهم الأفلام الصامتة بصرف النظر عن مكان تصويرها، ولم يكن هناك لغة تقف حاجزاً فى سبيل ذلك الفهم . يشير الدكتور محمد فتحي مؤلف كتاب " السينما والعولمة" إلى أن هناك عوامل أخرى أكدت على عولمة السينما مثل صدور الدوريات السينمائية المتخصصة وإنشاء معاهد السينما، فضلاً عن أن تراسل الخبرات السينمائية والاقتباس لم يقفا عند حد معين، بل وصل الأمر في النهاية إلى استعارة الكوادر الفنية البشرية من هنا وهناك , وسرعان ما اتخذت هذه الاستعارة وجهة واحدة هو هوليود مما أدى إلى اصطباغ هوليوود بصبغة عولمية جعلتها تسمى بمدينة السينما العالمية . وبالرغم من بعض التأثيرات العولمية الفرنسية والإيطالية والألمانية والسوفيتية على صناعة السينما الأمريكية ذات الصبغة العولمية , إلا أن تلك التأثيرات لم تمنع أمريكا من أن تكون هي السباقة فى هذا المجال الشعبي الاستهلاكي لاهتمام الامريكيين كثيرا بصالات العرض السينمائي التى يرونها العنصر الاساسى لازدهار هذا النشاط الترفيهي المهم للناس , الأمر الذي رفع عدد صالات العرض السينمائي في أمريكا خلال ثلاث سنوات في بداية القرن العشرين من عشر صالات فقط إلى عشرة آلاف صالة، وبالطبع ساهم ذلك مساهمة كبيرة في دعم الصبغة العولمية للسينما بدءاً من حاجة السوق الامريكى إلى أفلام من كل البلدان تلبي إقبال الجمهور المتنوع المشارب وانتهاء باستيراد الكوادر العاملة فى السينما من كل مكان . يوضح كتاب "السينما والعولمة" أنه حتى عام 1914 كانت شركات السينما الأمريكية تتقاسم أسواق العالم مع شركات السينما فى بلدان العالم المختلفة والأوروبية منها على وجه الخصوص، وانه حين نشبت الحرب العالمية الأولى اختفى أو انخفض الإنتاج السينمائي للبلدان المتحاربة لأن الموارد التي تدخل فى صناعة السليولويد أصبحت تستخدم في صنع القنابل , وهكذا احتلت الأفلام الأمريكية خلال سنوات الحرب المضطربة مكان الصدارة فى دور العرض عبر العالم كله , وأصبحت كوميديات شارلى شابلن ودوجلاس فيربانكس وأفلام رعاة البقر والأفلام العاطفية والميلودرامية التى تدفقت من الاستوديوهات الأمريكية تشد المتفرجين إلى شباك التذاكر فى كل مكان لتفتح الباب أمام ظهور تلك الكلمة الجديدة الآسرة فى قاموس السينما العالمية هى هوليود. وصارت هوليوود قبل نهاية الحرب العالمية الأولى قوة صناعية احتكارية فى ايدى كبار الموزعين والاستوديوهات وضخت " وول ستريت" أموالاً ضخمة فى الصناعة لأن الأوساط التجارية الكبرى رأت أن السينما فرصاً استثمارية ممتازة وسعيا من هوليود إلى احكام قبضتها ورغبة فى إعطاء الجمهور ما يريده راحت تستحوذ على المواهب الجماهيرية الأوروبية مستهدفة فى البداية السينما الألمانية المزدهرة. وكررت هوليوود نفس السياسة مع سينما البلدان الأخرى كالسويد والمجر والدنمارك. انتقلت صناعة الأفلام ( السينما) إلى آفاق جديدة بعد ان باتت السينما وسيلة التسلية المفضلة فى أمريكا كلها , وانعكس ذلك فى بناء دور عرض بلغت درجة غير مسبوقة من الفخامة والرصانة , كما دار " روكسى" التى شيدت عام 1927 فى طراز قوطى مع تفاصيل مستعارة من أساليب عصر النهضة والعمارة الإسلامية , وتقدمت هذه الوجهة باطراد وشملت أنحاء العالم المختلفة , حتى شهدت القاهرة مثلاً افتتاح سينما " مترو" فى عام 1940 بما تتحلى به من فخامة وأناقة وتجهيز . ومع تعلم السينما النطق , وصل صوت السينما الأمريكية إلى أرجاء العالم , ولكى تضمن الشركات الصناعية الأمريكية احتكارها لتقنيات نطق الفيلم اشترت حق استغلال التقنيات الأجنبية , واتفقت مع الشركات التى لم يتيسر شرؤاها وتم توحيد أجهزة الصوت وتسويقها لكل الاستوديوهات وقاعات العرض الأوروبية وكانت النتيجة تحول الصوت الامريكى إلى زئير وأصبح بالإمكان استمرار تبادل الأفلام بين مختلف البلدان لأن الأجهزة السينمائية كانت واحدة فى العالم كله , وأصبح من الممكن إدارة فيلم روسي فى آلة عرض أمريكية , وبدأت تتلاشى حتى الفوارق التى كانت قائمة أيام السينما الصامتة بين أساليب أو فنيات الفيلم الفرنسي والروسي والامريكى وغيرهم . وفيما يخص عقبة تعدد اللغات التى صارت الأفلام تنطق بها , سرعان ما ظهرت حلول الدوبلاج المكلف وطبع التيترات المترجمة على الفيلم الأقل تكلفة لتعطى ميزة جديدة للفيلم الامريكى النمطي السهل والأقرب منالاً وصاحب امكانات الإنفاق الأكبر. منذ راحت هوليود تحكم قبضتها على مقدرات السينما العالمية لم تنقطع - فى رأى المؤلف - محاولات التملص من هذه القبضة الطاغية وقد اتخذ ذلك أشكالا متعددة مثل سعي كثير من الدول إلى فرض حصص من الإنتاج المحلى على دور العرض الموجودة فيها , ومثل محاولات الخروج على نمط أفلام هوليوود , لكن مخاض الحرب العالمية الثانية أسفر عن محاولات جديدة تمثلت فى الواقعية الإيطالية الجديدة والسينما الفرنسية الجديدة , وغيرهما من المدارس السينمائية الجديدة التى رفعت راية العصيان أمام قولبة السينما " وهلودتها" فى محاولات متواصلة تستهدف إثراء السينما وعولمتها عولمة حقيقية. وفى سياق الحديث عن الظواهر المترتبة على عولمة السينما يؤكد الدكتور محمد فتحى مؤلف كتاب " السينما والعولمة" أن العولمة شيء والأمركة بما تفرضه من ثقافة واحدة مختلف تماماً وان التأثير السلبي للأمركة لن يقف عند حد تهديد الليبرالية الفكرية , وانما سيستمد ذلك التهديد إلى القاطنين للبلدان النامية , ويوضح المؤلف قوله هذا بالإشارة إلى تجربة المؤسسات التى عملت فى تنسيق مع أجهزة الاستخبارات إذ لم يكن الاختراق والتوجيه من قبل هذه الأجهزة فى مجال الفن مختلفاً عنه فى مجال الثقافة والأدب , كما كانت هيئة السينما المنبثقة عن المخابرات المركزية الأمريكية تمول المعارض والمهرجانات، وتستقطب الفنانين والمخرجين كما تملك هيئة السينما شبكة عمل وتوزيع تتمتع بدعم حكومي هائل مجالها 87 دولة , وكانت هذه الهيمنة ورجالها يتدخلون فى مراحل إعداد الأفلام والأعمال الفنية والمسرحية بالحذف والتغيير والإضافة , وفق استراتيجية محددة فى أذهانهم تقوم على ترويج الثقافة الأمريكية والتغاضي عن العيوب والأخطاء الأمريكية الفاضحة. ويختم المؤلف وجهة نظره بالقول , إن أقل ما يمكن ان يقال عن تأثير ذلك هو انهيار التفاعل الثقافى المثمر بين بلدان العالم وتسييد أيديولوجيا غير معلنة ترسخها الشبكات العولمية بقصد الهيمنة على الثقافة والذوق والفكر والسلوك . الأمر الذى يؤدى بالضرورة إلى أن تصبح الغالبية العظمى من بلدان العالم تحت رحمة إعلام وتعليم وإبداع وتراث ولغة الشركات العملاقة الجديدة إضافة إلى النمط الاستهلاكي فى الحياة وإعلام وأفلام الترفيه التى تغفل القيمة التنموية لكل المستحدثات الثقافية.