** وقفة... اعتدت أن أكتب فقط عن الأعمال التشكيلية التي تمتاز بالقيم الجمالية.. فقد يتراءى للكثير أنني أنسج كلمات معسولة.. لا.. فقد كنت في فترة من حياتي شديدًا في نقدي، استشرف من بأعماله ضعفًا لأكشف بالدراسة والتحليل عيوب وقصور بأعماله، بل وأحيانًا كنت أشتد حدة وقسوة في كلماتي حتى أظن أن هذا الشخص لن يقرب الممارسات الإبداعية ثانية مدى الحياة. ولكنني في لحظة تفكير بيني وبين نفسي وجدتني بهذا الشكل أقسو على الكثير.. وتذكرت بداياتي حيث كانت كلمات النقاد والكتاب تؤلمني.. وجدتني أسلك نفس الدرب الذي كنت من قبل أرفضه وأشجب كل من يمارس ذلك الأسلوب السيء والذي لا يقدّم الفائدة بقدر ما يؤلم الكثير ويحبطهم ويقتل الإبداع لديهم. ولقد توصلت إلى أن المبدع في مقتبل حياته كالطفل الذي يتعلّم كيف يحبو.. وسألتني.. ماذا لو ضرب هذا الطفل إذا سقط على الأرض؟ هل يمشي ثانية؟ أيقنت حينها أن النقاد أكثر الناس قتلاً للمواهب، وتدمير نفوس الكثير من الشباب الذين إذا ساندناهم لوجدنا فيهم المبدع الحق.. الذي نحتاجه ونبحث عنه. من هنا توارى كل ذلك، وتحوّلت وجهتي في عملي الصحفي والأكاديمي منذ أن كنت بكلية التربية الفنية جامعة حلوان بمصر وامتدت معي إلى هنا.. وسعيت دائمًا لدعم الشباب لكوني كنت أتألم كثيرًا حينما أحس بظلم يقع عليّ.. الكثير من المبدعين والروّاد مروا في بداياتهم بهذا القهر... وأخذت على عاتقي قراءة الأعمال التي تمتاز بالقيم الجمالية.. والمتابع لكتاباتي بالصحف السعودية وعلى رأسهم ملحق أربعاء المدينة سيجد أن كل من كتبت عن تجربتهم يستحقون التقدير أكثر مما كتبت. أعتذر للإطالة وإنما آثرت أن أوضح للقارئ والمتابع لكتاباتي أنني انتقي وبحرص شديد التجارب الإبداعية التي أكتب عنها؛ علمًا بأنني لا أعرف أصحاب الكثير منها شخصيًّا، وإنما كل ما يعنيني هو التجربة الجمالية ذاتها.. وقفة مع المبدع فهد خليف.. أما اليوم فإنني أقدم للقارئ والمهتم بالثقافة التشكيلية تجربة فنان تشكيلي مبدع.. مبدع بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ.. والكثير ممن يتابعون إبداعه على يقين بهذا التميز والتفرد.. إن التجارب الإبداعية التي قدّمها فهد خليف تعد بمثابة الحقبات المتمايزة.. فقد قدم لمحبّي إبداعه تجربة جمالية قوامها الخط العربي، وكانت من أشد التجارب تميزًا لمستلهمي الحروفية.. وها هو الآن يقدم تجربة تشكيلية أكثر عمقًا.. وأعمق رمزًا.. تجربة حافلة بالقيم الجمالية والتعبيرية والرمزية على السواء.. إنه فنان مدرك للمنظومة الإبداعية.. فنان على يقين ودراية ووعي بقيمة ما يقدمه للمتلقي المتذوق.. فنان لا يقدر جمهوره بل ويرتقي بالذوق العام لدى الكثير من المشاهدين.. فنان يجبر المشاهد العابر إلى التوقف، ثم التأمل، ثم التشرب، والاستكشاف.. فنان يجعل من جمهوره مستشرفًا للجمال، فنان ينهض بالحس والذوق ويقدم جانبًا إبداعيًّا يثري علم الجمال. وجه وطائر... عنصران يمثلان السيادة في المنظومة الجمالية بتجربة فهد خليف التشكيلية.. عنصران هم أصل الحوار، والتحاور.. هم أشد تعبيرًا في حديثهم وصمتهم... عنصران منهما يخرج التعبير وتتأجج القيم.. عناصر التجربة الجمالية لدى فهد خليف: التجربة الجمالية لدى فهد خليف حافلة بالعناصر.. منها ما هو تمثيلي كالوجه والطائر، ومنها ما هو تعبيري أو يحقق سمات التعبير كاللون وأسلوب التنفيذ.. إن أعماله حافلة بمجموعة من الرموز تقابل عين المتلقي فتتصدر الرؤية.. من هذه الرموز: - الوجه الآدمي.. بما يتضمن من طاقات تعبيرية وقيم لونية. - الطائر.. بحركاته المتنوعة واتجاهاته المختلفة وأشكاله وألوانه وحجومه. - اللون.. بدفئه الهادئ الذي يجذب عين المتلقي ويتخلل مشاعره ووجدانه. - أسلوب تنفيذ أعماله القائم على تقسيم العمل إلى مساحات طولية أو عرضية أو كلاهما معًا. - العناصر الحروفية ذات التشابكات والتداخلات التي تميزت بها تجاربه التشكيلية السابقة. - النقوش والتشكيلات التي تمثل الترانيم ذات الدلالة الرمزية. القيم التعبيرية في الوجوه الآدمية بتجربة فهد خليف: يعتبر الوجه الإنساني من أهم الأعمال الفنية التي شغلت اهتمام الكثير من الفنانين على مر العصور، وما زال هذا الاهتمام قائمًا إلى يومنا هذا، فقد عبّر الكثير من الفنانين على وجه العموم والفنان فهد خليف على وجه الخصوص عن (الوجه كمفردة تشكيلية) بطرق وأساليب ذات أبعاد تشكيلية وتعبيرية مختلفة، تتضمن سمات مادية "تشكيلية" ومعنوية "تعبيرية" تتمثّل في ملامح الوجه وما تحمله من تعبيرات تعطى دلالات نفسية مختلفة، وذلك لأن طبيعة الوجه التي يتميز بها ما هي إلا وليدة لعوامل شعورية تتفاعل داخل الإنسان فتتأثر ملامحه وتنطبع آثارها عليه فتارة تكون حزينة وتارة أخرى تكون هادئة، وبذلك تفصح الأعمال الفنية القائمة على توظيف الوجه كمفردة تشكيلية عن الكثير من المعاني التعبيرية التي تعكس مشاعر وأحاسيس الإنسان، وعند تتبعنا للجوانب التعبيرية للوجه الآدمي في أعمال فهد خليف فإننا نراها تعنى الإفصاح بلغة (الأشكال، والألوان، والأحجام والظلال)، عن قيمة فنّية يحسّها الفنان وتنتقل من خلال مشاعره إلى الآخرين، وهذا يعد انتقالا للشحنة الداخلية عند الفنان إلى المتلقي.. من هنا يتحقق التميز لدى الفنان حيث ابتكر أسلوبه المميز الذي جمع بين تعبيرية الوجه والخط والطائر واللون في منظومة جمالية متكاملة تخترق مشاعر المتلقي لتسكن عقله ووجدانه. القيم الرمزية في أعمال فهد خليف التشكيلية: يستقل الفنان فهد خليف بابتكار مظاهر تشكيلية خاصة به، ترجع إلى ما يختزنه عقله من ثقافات تشكيلية ومخزون بصري إضافة إلى العوامل الشخصية التي يتميز بها، وهذا بدوره قد نسج من خلاله مجموعة من الدلالات التشكيلية الخاصة به التي تشكلت منها تجربته الجمالية والتي أصبحت كبصمة للفنان ندرك من خلالها أسلوب أدائه الخاص واختياره لعناصره المميزة، كما تظهر أيضًا في تناوله التقني بحيث أصبح عمله الفني متفردًا من الناحية الفنية والجمالية. إن ما يقوم به الفنان فهد خليف أثناء العملية الابتكارية هو تعبير عن مخزون بصري لعناصر مرئية ذات دلالات جمالية لديه ندرك من خلالها أن ما ينتجه يحمل صفة ذاتية مستقلة من النشاط الابتكارى، وذلك لأن ما يبذله الفنان إنما يتشكل بلغة تلك المشاعر، والأفكار، والقيم، والرغبات التي تميز بناء أحاسيسه، إنها ذاتية الشعور، تلك التي تحقق للفنان تفرده، بالإضافة إلى السمات التي يحملها والنشاط الابتكاري هما ما يعطيانه استثنائيته وشخصيته. من هنا تعتبر الدلالة الرمزية بأعمال فهد خليف بمثابة الأثر المادي الظاهري الذي يتأكد من خلاله أسلوبه والذي يعد بمثابة الطريقة المتميزة والثابتة نسبيًّا، وبذلك يتميز أسلوبه ويتفرد بقدر ما به من رموز ودلالات وصياغات جعلت من أسلوبه منهجًا خاصًّا.