ذات صباح جميل من عام 1369ه تحديدًا في وادي فاطمة، انبجست أول مضخة مياه من جوف الأرض صوب جدة وانتحى الماء باتجاه ك 14وارتطمت المياه بخزانات جدة لأول مرة في التاريخ ارتطامًا هزّ البنية التحتية الجداوية، كما غيّر الوجهة الثقافية لجدة بكاملها، وأصبح حديث القوم (موية العين). صفّق القوم وتبادلوا التهاني واشرهبوا؛ فشركة العين العزيزية نجحت في جلب المياه وتهاوت الكنداسة الجداوية العتيقة الصدئة وتحولت لمتحف التاريخ المائي، وفرح (الجداويون) فرحًا شديدًا بعد أن تلاطمت البازانات داخل الأحياء بهذه المياه العذبة الممزوجة بطعم السيل، وتقاطرت الحنفيات بجمام المياه الندي، أما في الوادي (وادي فاطمة) فالوضع يختلف تمامًا حيث بدأت تنهار البنية المائية التحتية كما بدأت البنية الثقافية تتهاوى، وقف الخواجة فتأمل المضخة الضخمة قليلاً وهو يستمع إلى (حتيها) وهديرها الفظيع، ثم قال كلمته الشهيرة (عشر سنة وادي فنش) هكذا رمز الخواجة، في غمرة الابتهاجات الجداوية لم ينتبه أحد لهذه العبارة الخواجية إلا قلّة من عقلاء المياه ففهموا أن الخواجة يقول بعد عشرة أعوام سوف يمحل الوادي وتنتهي عيونه ثم تتلاشى الثقافة إلى تكونت على أطراف العيون وحول السواقي وبين الجداول، ولم يكذب خواجتنا انتهت العيون ثم الآبار ويبست الثقافية المحلية وتنازح (الودياويون) وتنادوا بالرحيل (هكذا رحت المياه) أما الجداويون فما زالوا متهللين ويكتبون عن هذا التاريخ الجميل وعلى رأسهم المؤرخ العظيم عبدالقدوس الأنصاري وكتابه عن تاريخ مدينة جدة وغيره من المثقفين المخضرمين يوم ذاك ممن عاشوا مرحلتين هامتين من تاريخ شبه الجزيرة العربية، ثم تنشر صحفهم التهاني والتبريكات، وتمتشق البازانات زهوًا بالمياه، أما أهل الوادي فلم يلتفت لهم أبدًا، وتم تجاهلهم بشكل كبير ولا تنشر أخبارهم النادرة إلا حشوا على مناسبات تخص العين العزيزية. بدأ أهل الوادي يزحفون نحو المحيل (وجاءت قصيدة الأرض اليباب) فجفت العيون ثم الآبار تماما وانحسرت الزراعة في بقيع يسيرة(تصغير بقع وهو الأرض المحددة للزراعة) هكذا يسمونها أهل الوادي ولم يصدق أهل الوادي أن كارثة رهيبة حلت بواديهم إثر هذا الجفاف (المصنوع) (يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك) فالمياه رحلت والناس بدئوا يرحلون نحو الفقر ولم يشعر بفقرهم أحد أبدًا، وكنا نظن أن هذا الجفاف سوف يضرب المياه فقط، ولكننا فوجئنا في السنوات الأخيرة أن الجفاف امتد اليوم نحو الثقافة، فيبست ينابيع الثقافة مع يبوسة الماء، فتحول الوادي من واحة ثقافية إبان العصور الماضية خاصة إبان القرنين التاسع والعاشر أعني (وادي الشريف) في عصر أسرة بنو فهد الهوامش وأسرة الظهيريون (تغير ظهر) تنامى الوادي نحو محيل ثقافي شديد وأعني بالثقافة (التواصل الفاعل في دفع الحراك التنموي) وليس المعلومات وتراكمها، لقد سقط الوادي اليوم وبقراه وتهاوت حصونه الثقافية وأصبح عبارة عن قرى تحيط بالجموم وقريات وهجيرات تحيط بالقرى الرئيسة، تلفحها رياح الهجير وعواصف التراب وكثحات الملح اليابس فما زال الوادي اليوم بعيدًا تمامًا عن الحد الأدنى من المشاريع التنموية والثقافية وأقرب مثال مستشفاه المقرر له اليوم 12 سنة لم يخط خطوة واحدة نحو التنفيذ باستثناء بتر طمرتها الرمال ولكم أن تتخيلوا محافظة من أقدم المحافظات إداريا بمنطقة مكة تضم نحو 60 قرية، أما المناسبات الثقافية فهي شحيحة وكل ما يجري عبارة عن منافذ بسيطة جدًّا متواضعة في طرحها تمامًا وكل مشاريعها الثقافية إنتقائية ولا نسمع بمشروع ثقافي يستطيع إحلال النفاذ باتجاه التنمية ومدى فاعليتها والرقابة عليها فأينما توجه بصرك فلا ترى سوى جفاف وهجيرات ملح وبالمناسبة لم تعد تستطيع الجمعيات الخيرية استيعاب الأعداد المتزايدة من طالبي العون بسب غياب الفكر الثقافي القادر على بلورت التنمية. وبعد نفاد المياه هناك كارثة كبيرة لا تقل عن كارثة المياه وأقصد بها تدمير هائل للبيئة (الموارد الطبيعية) وتحويلها إلى أراض يباب تصافرها الرياح، فقد تقلص الأراضي الرطبة وحلت كارثة التلوث البيئي الرهيب من وسط الجموم بواسطة نفذ العوادم وأصبحت ذرات الأكسجين تحمل كمًّا عاليًا من ذرات الطاقة المحترقة، كما استزفت جميع الأراضي الصالحة للزراعة بعد نقل تربتها وتحطيم الرقع الخضراء، ولم يبدر أي حراك معرفي وثقافي قوي يقلص حجم الكارثة البيئة (غير المنتبه لها كليًا) وكل ما يجري عبارة عن تناديات خضعت (للتراث) الإداري بمحافظة الجموم فمثلاً لم تعقد ندوة واحدة عن المشاريع التنموية ومدى تجاوب المثقين معها وفهم علاقتهم بها، ولم نعلم أن هناك مشروعًا لكتابة تاريخ الوادي وتوثيق مصادره سوى اجتهادات الكتروينة تفتقر افتقارًا شديدًا لضبط المعلومة. الوادي اليوم لا نصيب له من المشاريع الثقافية الجيدة والملائمة ووزارة الثقافة لم تتبن مشاريع كهذه تلامس تطلع الشباب فمثلاً لم نسمع بموافقة الوزارة على أيام ثقافية أو أسبوع ثقافي ينشط الحراك الثقافي والتنموي بالوادي في حين أن الوزارة سعت لأيام ثقافية خارج حدود الوطن وكان الأولى بها بقعة كان لها دور كبير في توفير أكبر مشروع تنموي كان هذا المشروع مرتكزًا للنهضة الواثبة بجدة فماذا لا يعوّض الوادي عن هذه التضحيات؟ صحيح أن أهله اليوم مشغولون بلقمة العيش وتأمين مصادر رزقهم ولكن هذا لايعفيهم من المشاركة في تفعيل مناشطهم ومطالبهم وتحريكها بشكل قوي صوب مواقع صنع القرار وعليهم أن يطالبوا بها. إن الوادي اليوم بلا هوية ثقافية، وبدون حراك تنموي وما تزال الغفلة تضرب بأطنابها داخل الوادي وتحفر في جسده الفكري... ووزارة الثقافية مهمومة بمعرض الكتاب وقياس نجاحاته بالمبيعات بالإضافة للمهرجانات الثقافية خارج البلاد، فحبذا لو تلتفت للقيمة الثقافية الداخلية وخاصة القرى ذات البعد التاريخي كوادي فاطمة.