لم تعد وظيفة المثقف بنظري تنحصر بتعليم الناس أو تثقيفهم أو نشر الوعي عندهم, فهذه الوظيفة (الكمية) كانت تصلح في الماضي فقط, أي قبل الثورة المعلوماتية والإعلامية والتقنية, والتي ساعدت في جلب المعلومات إلى كل بيت, وجعله أشبه ما يكون بمركز «أبحاث» كامن.. فكل بيت -ودونما أية مبالغة- هو مركز أبحاث «بالقوة» لا »بالفعل».. أي أن الجميع الآن, صار بمستطاعهم أن يبحثوا ويقرؤوا ما شاؤوا, طالما توفرت لهم بعض الإرادة والمشيئة, وبعض الإلمام البسيط بمبادئ الكمبيوتر, أو التقنيات الأخرى الصغيرة كالهواتف النقالة, والتلفزيون, وغيرها. أما قديماً فلم يكن هذا الأمر ممكناً ببساطة, كان المثقف لوحده هو من يبحث ويفتش عن المعلومات ويقرأ الكتب ويتصفح الجرائد وينبش الأوراق والمستندات والمطويات, ومثل هذا السلوك صار يفعله الآن أي شخص عامّي وغير مثقف, فبنقرة زر واحدة يمكن جلب أية معلومة كانت, وهذا عمل ليس ثقافياً طالما أنه محصور بالوصول للمعلومة دون تحليلها. قديماً, كان المثقف شبيهاً بالسوبر «إنفو» مان, أي أنه الوحيد الذي يُنظر إليه على أنه سيّد المعلومات, وجامعها, وقارئها. وأما الآن, فهذا التعريف يبدو تقليدياً جداً, وربما دون أدنى فائدة, فمثل هذه الوظيفة المتواضعة ذهبت وتلاشت برأيي؛ فهل يعني هذا موت المثقف, لتُضاف هذه المقولة إلى قائمة الميتات المابعد حداثية (موت الكاتب, موت الإنسان, موت المؤلف, موت الفلسفة, الخ)؟ أم أن للمثقف دوراً آخر, عبر استجلاب تعريف جديد يُعطي للمُثقف قيمته التي تكاد تكون مفقودة؟ وماذا يبقى للمثقف بعد أن صارت المعلومات كلها بيد الجميع, وباتت الوسائط القديمة (المنشورات والمطبوعات والمطويات) رهينة التاريخ الماضوي والعتيق؟ إن المثقف في مثل هذا الوضع, لا يموت, بل على العكس تماماً, يزداد دوره تعقيداً وصعوبة, فهو الذي يتحمل مسؤولية تحليل هذا الركام المعلوماتي المتضخم يومياً, ليشمر عن ساعديه وينخرط في عملية انتصار دائمة للحقيقة, ولا أعني بالحقيقة هنا سوى مطابقة المعلومات لواقع التجربة أو لبديهيات العقل النظري. إننا في كثرة مصادر المعلومات في هذا العصر نجد الغث والسمين في نفس الوقت, ونصادف ما يُمكن تصديقه وما لا يُمكن, ونواجه الأكاذيب المختلطة بالحقائق, وننصدم حينما نرى ردود الأفعال المتباينة والمتناقضة على أشد ما يكون التناقض! فأناس يهيمون بالخرافات والأساطير ويتخذون منها عقائد وأفكاراً يتحمسون لها ويذودون عنها ذود المُجاهد, وآخرون يُسفسطون ويهرفون بما لا يعرفون ويملؤهم الخيلاء الأجوف وهم يؤمنون برأيهم إيماناً صارماً لا هوادة فيه, وغيرهم يتنطع في رأيه ويتجاهل سواه من الآراء وهو لا في العير, ولا في النفير! ومن هنا تنبثق وظيفة المثقف الحقيقية, إنه يثور من وسط هذا الركام العشوائي من الآراء والمنقولات والمعلومات التي يتم تجميعها عشوائياً وتصديقها دونما برهان, فينقلب على وسطه هذا ويشرّحه ويفككه ويدمره بمعاول النقد والتمحيص, وهذا يعني أن تعدد الوسائط المعلوماتية وكثرتها لن تهدد وظيفة المثقف فعلاً بل على عكس هذا, وكما أسلفت القول, ستزداد أهمية المثقف والحاجة إليه, وسيزداد تبلور وظيفته, لأنه المطالب بالانتصار للحقيقة, وهو المسؤول عن حفظ العقل, وهو الذي يحارب النزعات الكمية والتحفيظية والتلقينية لصالح النزعة الكيفية والإدراكية والاستيعابية. وهذا يعني, أن المثقف مصدر تهديد حقيقي للجهل, وهو خطر على الغوغاء الذين يعتقدون أن سهولة الوصول للمعلومة يعني ببساطة الذكاء! وهو ما يعني, في نهاية المطاف, أن المثقف شخصية تحليلية من الطراز الأول, وشخصية إشكالية ذات أسئلة عميقة تسعى إلى نسف السائد وتدمير عقائد العجائز, واستبدالها بالأفكار المنطقية والعلمية السديدة. ولا يُفترض بالمثقف أن يُجامل على حساب البديهيات العقلية والقيم الأخلاقية والإنسانية, فالرسالة الثقافية والمعرفية هي بالأساس تنص على احترام الحقيقة بجانبيها التجريبي والعقلي, وبعث روح التسامح بين الناس على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم, وإشاعة الجمال وروح الحياة وألوان البهجة بين الجميع, وهذه المقدمات التي ينبغي بالمثقف أن يأخذ بها تتناقض كلياً مع تلك التي يعتنقها كثير من السفسطائيين الجامعين للمعلومات وعبدة قوقل وعشاق الاقتباسات الذين يدمرون الثقافة والمعرفة بكثرة غثائهم وركاكة تحليلهم وسطحية نظراتهم التي لا تتعدى منقولاتهم وآراءهم التي يجترونها اجترار البهائم لما في أحشائها. ولا يفوتني هنا أن أنوّه إلى قضية أن المثقف هو مسؤول كل المسؤولية عن تدهور الأوضاع «الثقافية» و«المعرفية» وحتى «الأخلاقية» في مجتمعه, فلا معنى للثقافة دون المسؤولية, ولا قيمة للثقافة دون شيوع النقد, ولا أهمية للعلم والمعرفة إلا بذيوع الفكر الحر والناقد والخلاق, وهذا يعني, مع بالغ الأسف أيضاً, أن المثقفين هم بدورهم أكثر المساهمين في تدهور الفكر الاجتماعي وانحطاطه, أليسوا هم المعنيين بهذا الأمر أولاً وأخيراً؟ إنهم كذلك ولا ريب.