انتهينا في المقالة الاولى الى القول ان هناك عوامل ثلاثة تساهم في انتشار المذهب الفقهي على رأسها احداث منهج جديد مخالف لما سبقه والمنهج الأثري قد احدثه الشافعي، والحنابلة والظاهرية تبع له وهذا هو ما يفسر ضعف انتشار المذهب الحنبلي ايضا فالإمام احمد لم يأت بأصول جديدة ولذا لم يعده البعض من الفقهاء كباقي الثلاثة لانه لم يات بجديد في الاصول يصح ان يتشكل حولها مذهب، وليس كما يفهم البعض ان نفي الفقه عنه نفي للمعرفة به فهذا خلاف الواقع فالامام احمد فقيه ويستنبط ولكن ليست له اصول الا اصول مكررة مع الشافعي اضافة لكونه يبتعد عن الفقه الافتراضي أي معالجة مسائل قد تقع مستقبلا ومعلوم ان جل مسائل الفقه افتراضية وابتعاد الفقيه عنها ابتعاد عن الفقه كهيكل او بناء، وكذلك داوود الظاهري مؤسس المذهب الظاهري لم يأت بأصول جديدة وانما اخذ اصوله من الشافعي وقد كان متعصبا له. وبالنسبة للعامل الثاني وهو الابرز في انتشار أي مذهب وهو العامل الشعبي ومدى قبول الناس له فله دور اكبر لان الفروع ذات طابع عملي وليس اعتقادي والعامة يهمها العمل ويهمها ان تتلقى احكاما متساوقة ومتيسرة ايضا فلديها حدس فقهي وان كانوا غير متخصصين فهم يستطيعون ادراك قبح القول الذي سقته في الجزء الاول في بطلان قبول من صرحت بالموافقة ولم تكتف بالصمت وبطلان خطا من يفرق بين الزيت والحليب في سقوط الفأرة ويستهجنون ان يجري الربا في البر ولا يجري في الذرة مع انها جميعا تبادل تجاري يهدف للربح والامثلة كثيرة، وكذلك في زمننا يستهجن الناس بعض الفتاوى البعيدة عن العصر وهذا هو ما يجعلهم يتجهون للمناهج الحديثة العقلية او البحث عن فتاوى متيسرة كما يقال وهو ما يجعل انصار تلك الفتاوى قليلون الامر الذي سيؤدي بها الى التلاشي ان لم يتداركوا انفسهم باستخدام العقل، ولهذا نجحت المذاهب العقلية في استقطاب الناس قديما وحديثا اكثر من المذاهب الحرفية وكلما كانت ممعنة اكثر في العقلانية كلما كانت ذات تعداد اكبر لمنتسبيها وهذا ليس محض صدفة فأتباع المذهب الحنفي والمالكي اكثر من الشافعية والحنابلة، والاخيرين اكثر من الظاهرية والتي تلاشت بسبب امعانها في الظاهر ثم يليها في القلة الحنابلة لانهم في المرتبة الثانية بعد الظاهرية ويتأكد هذا الكلام اكثر في الدول المتاخمة لشعوب اخرى فالحنفية يتواجدون في الاطراف وفي المناطق الداخلية وكذلك المالكية اما الشافعية والحنابلة ففي المناطق الداخلية فقط كالشام والعراق واليمن ومصر او جزر معزولة كاندونيسيا والتي ينتشر بها المذهب الشافعي لان المناطق الحدودية ذات طبيعة انفتاحية تحتاج للمرونة في التعامل مع المستجدات وهذه تكفلها اصول الحنفية والمالكية كالقياس والاستحسان والمصلحة بخلاف منهج الحرفيين فلا يأخذون بها الا على نطاق ضيق الامر الذي يجعل من الصعوبة بقاء هذه المذاهب في بلدان متغيرة، ولذا نجح المذهب المالكي في ان يكون مسيطرا طيلة ثماني قرون في الاندلس ولا اتوقع ان يكون لاي مذهب حرفي نفس الحظوة في النجاح والبقاء ولذا فحينما حورب ابن حزم في الاندلس من قبل اتباع المالكية كابن العربي كان بسبب محاولة فرض نهج لا يمكن ان يتساوق مع طبيعة الاندلس بدليل أننا لا يمكننا الجزم بأن نفس المواجهه ستحصل له لو كان يريد فرض ظاهريته في مكة او اليمن، وفي العصر الحديث نجد ايضا ان الحنابلة المعاصرين محصورين في وسط الجزيرة العربية بخلاف التوجهات العقلية الحديثة سواءا فقهية او غيرها فهم منشرون في ارجاء العالم الاسلامي وهذا مؤكد لما قلته من ان العامة تتجاوب مع العقل اكثر. ان تأثير الطبيعة المكانية على المذهب وانتشاره لا تقتصر على المذهب فحسب بل حتى الاشخاص فالمجددين العقلانيين الذين ظهروا في الاسلام نجدهم قد ظهروا في مناطق يغلب عليها الانفتاح من المناطق المتاخمة اكثر من المناطق الداخلية فالشاطبي وابن رشد وابن باجة وابن الطفيل يعدون من ابرز منظري العقل الشرعي عموما وهؤلاء وجدوا في المغرب نظرا للحاجة الملحة الى التغيير بخلاف من يغلب عليه التصوف كالغزالي حيث امضى اغلب فترات حياته في العراق والشام وهذا في الطبيعة المكانية، والطبيعة الزمانية من باب اولى ولكن المقام لا يتسع لتوضيح اثر الزمان على التوجهات الشرعية وحركتها. لو اتينا الى صور من ابتعاد الظاهرية عن العقل والتي جسدها الدكتور ابن عقيل في حواره سنجد انه لم يصور المناهج العقلانية في الشريعة كما هي عليه حقيقة بل ابتعد بها عن مضامينها الحقيقية وهذا حال كل الحرفيين فهم يقلصونها عملا وفهما الى ان تصبح او تتحول الى ادلة جزئية او مرجحات او سياسات نظامية بعد ان كانت مفاهيم كبرى فهو قد عكس الآية كما يقال فقد جعل المعنى الظاهري اصل في الشريعة مع انه طريقة نظر وجعل الاصول الحقيقية الكبرى طريقة نظر بل اقل فقد جعلها مجرد سياسات للحاكم فما ذكره عن المصلحة الاستحسان اختزال شديد لها وكذلك القياس فقد اتى بمفهوم له يخرج بسببه اغلب احكام الشريعة فقد انكره سوى مانص على العلة به او ما قطع فيه بنفي الفارق اما العلل المستنبطة فواضح انه ينكرها وقد انكرها بعض الحنابلة المعاصرون صراحة والاغلب ينكرها بلسان الحال وهذا يعود الى غياب التعليل وغياب التعليل يعني غياب الاجتهاد فالمجتهد لا يستطيع التحرك الا في نطاق العلل ومن اغلق باب العلل فقد اغلق اغلب الاجتهاد وهي دعوة صريحة الى التقليد ، فالمعاني الحرفية لا يمكن الاجتهاد من خلالها الا اذا تعارضت وليس مجال الاجتهاد هو تعارض النصوص بل فهمها ولذا لم يجعل العلماء السابقون الظاهرية من اهل الاجتهاد ولم يؤخذ بمخالفتهم في الاجماع أي انهم لا ينقضون الاجماع اذا خالفوه فلا عبرة بموافقتهم ولا مخالفتهم فقد جعلوا كالعوام حيث نقل ذلك النووي في شرحه لمسلم وقال به الجويني وابن رجب الحنبلي وغيرهم وعليه الأكثر وقد تكون هذه مبالغة ولكن تؤيد ما اذكره من ان الاخذ بالعلل هي علامة الاجتهاد عند العلماء ، فالشاهد ان القياس معنى عام وضعت تحته احكام شرعية كثيرة واما قول الشيخ ان الصحابة كانوا لا يقيسون الا على منصوص عليه بالمعنى حيث قال " والقياس الذي امر به الصحابة وفعلوه هو ما كان المقيس فيه منصوصا عليه بالمعنى فهذا حجة " والصحيح خلاف ذلك حيث يتضح من عبارته ان الفرع ادخل كمفردة من مفردات عموم الأصل اي اضافوا للاصل مفردة وحالة جديدة والصحيح انهم قاسوا خارج معنى الاصل فهم اتوا بعلل مستنبطة في المواريث وهي ما توصف بانها من المقدرات التي لا يجوز تغييرها كميراث الاخوة مع الجد والمسالة العمرية والمسالة المشتركة والعول وكلها خارج معنى الاصل ولم يوافقهم الظاهرية عليها مما يعني انه لا يأخذون بقياس الصحابة وتخريجهم للمناط- وابن حزم يرفضها جميعا باستثناء المشتركة فلم اقف له على قول بها- فقد استنبطوا عللا وعملوا بها فكيف بما هو دونها وحينما ينكر بعض التقليديين تغيير الاحكام ويرد على منع عمر للمؤلفة قلوبهم بقوله ان العلة لم تتوافر هنا الا يدل هذا على ان هناك عللا مستنبطة فعمر قد استنبط العلة ولم ينص عليها فان قيل ربما سمع شيئا من النبي لم يصلنا فحينها ستكون كل اقوال الصحابة في حكم المرفوع وليس بها أي اجتهاد وهذا خلاف الواقع ولن نستطرد في القياس واثباته علميا فقد لايفهمه كثير من القراء وللحديث بقية. •باحث شرعي وعضو هيئة التحقيق سابقا Alweet55 @hotmail.com