لا أدري متى نصل إلى محطة نتوقف عندها عن جلد ذواتنا ممثلة في ثقافتنا، بحيث لا نرمي كل خطيئة عليها تساوقًا مع أصوات لن ترضى حتى تُعلن ثقافتُنا أنها وراء كل إثم وخلف كل كارثة تحل بالعالم؟ يوم الأحد الماضي سطر الكاتب القدير الدكتور علي الموسى مقاله في جريدة الوطن وعنونه ب(ثقافتنا بين ابن سينا وفاروق عبدالمطلب) ربط فيه بين تطرف الإرهابي النيجيري وثقافتنا، على الرغم من أنه لم يجلس على مقاعدنا الدراسية، بل تنقل بين عدة دول لم تكن السعودية منها، ففي سيرته أنه درس الهندسة في جامعة (كولدج) بلندن تحت أنوارها الكاشفة وبالقرب من دقات ساعتها الصاخبة ومع هذا لم تُحدث أثرًا إيجابيًّا في عقليته! وحتى لا أُفهم خطأً فأنا (أقف) مع الدكتور في الخندق نفسه بوجه كل فكر متطرف عبثي حادٍّ يكره الحياة ويتلهف للدماء، لكننا (نختلف) في تحديد مصدر هذا الفكر وأصل نشأته وظروف تكونه، فالدكتور يرى أن ثقافتنا تتحمل وزر فكر (النيجيري) والدكتور محق، غير أنه أغفل تبيان السبب الحقيقي لانحراف ثقافتنا، وأنا أسأل الدكتور: ألم يتشكَّل هذا الفكر في جبهات قندهار وكابول قبل ما يقرب من ثلاثة عقود ؟ ألم يؤمِّن العرب والمسلمون على صيحات حكمتيار وكرامات برهان الدين وخُطَب سياف؟ ألم يُلبسوا (الأفغان) وقاصديهم صفة (المجاهدين) ؟ ألم يوظفوا إعلامهم وإمكاناتهم للجهاد ؟ ألم يدفعوا بأبنائهم إلى جبهات القتال بعد أن أضفوا عليه صفة الجهاد ؟ ثم ألم يكن كل ما سبق بعد رضا وتأييد المعسكر الغربي المحادِّ للمعسكر الشرقي؟ هنا مربط الفَرس، ومن هنا نشأ فكر التكفير والتفجير - الذي لم يُعرف من قبل في ثقافتنا بهذه الصورة - وبرعاية المعسكر الغربي نما وكبر وكان من ثماره (القاعدة وبن لادن والظواهري والملا والنيجيري) فارتد على الباذرين والباذلين دون تفريق، وبعد أن تحققت مصالح الغرب كفر بالجهاد الأفغاني فكفرنا به ! ولو أن (روسيا) اليوم تقدمت نحو المياه الدافئة خطوة واحدة لأصبحت (تورا بورا) في نظر العالم موطن التضحية وأرض الكرامة والجهاد الخالص بوجه العدو الغاشم، ولَصادق العرب والمسلمون على النظرية الحديثة! من هذا يتضح أن ثقافتنا ليست مَن بذر هذا الفكر البغيض، بل إنها ضحية اختراق، كذلك فليس من المنطق حينما يظهر متطرفٌ في بيئة غربية محضة نأتي ونتلقف وزره ونلوم ثقافتنا التي ما كان لها أن تصل لهذه الحالة لولا عوامل خارجية أثَّرت فيها دون إرادتها، في الوقت نفسه نرى الثقافات الأخرى خيرًا محضًا وأننا أصل كل فكر متطرف ومصدر كل تخلف! أمَّا إشكالية المدارس ومجافاتها لأسماء أعلامنا الأوائل التي أسقطها الدكتور على فكر معين، فأقول: لا يمكن نفي وجود هذا الفكر المضاد لكنه لا يستطيع أن يصمد أمام رغبة وزارة التربية متى أرادت ذلك، وللتدليل ففي القطاع الذي أتبعه مدرسةُ (الحسن بن الهيثم) التي تخرجتُ منها، وبه مدارس (الرازي وابن سينا وابن خلدون)، وبإمكان الدكتور حال مروره ببلدتي متجهًا إلى جدة أن أقف وإياه عليها. لا يختلف عاقلان على جرم الإرهاب، ولذا أرغب من الدكتور وهو الذي خبر البحث العلمي في مواطنه الأصلية حال إحساسه بالمشكلة ألا يأتي بنتائج فَورية دون العودة إلى حيثياتها، وإلا كانت أشبه بالدراسات (الوصفية) التي يحشد فيها الباحث ما يؤيد رأيه ويتغافل عن الرأي الآخر، ولذا يبقى (الإنصاف) مع الآخرين عزيز المنال، ويبقى سؤال (مَن بذر هذا الفكر؟) عائمًا ما لم نسمِّ الأشياء بمسمياتها ونسلط الضوء على الزوايا كلها، (وأعتقد) أن الدكتور من الذين يؤمنون بهذا المبدأ ويسعون لتحقيقه (مهما كلف الأمر) ؛ حتى تتعرف الأجيال على هذا الفكر فتقف ضد حامليه ولا تُخدَع كمَن سبقها نتيجة اختراق باذريه لثقافتنا.