لم تزل المنظمة العربية للترجمة (بيروت) تتحفنا بترجمات متينة لمظانّ في العلوم الإنسانية منذ نشأتها سنة 2003. ولعل العناوين المتكاثرة والتي تعدّ بالعشرات إنما تسهم في تقريب نظر القارئ العربي في هذه النظريات والمدارس العلمية التي تنتشر مباحثها المتعمقة بغير اللسان العربي. ولعلّ من أهمّ عناوين التي نشرتها المنظمة مؤخرا كتاب اللسانية الفرنسية كاترين كيربرات أوريكيوني «المضمر» الصادر بالفرنسية سنة 1998، وقد تولت الكاتبة والمترجمة اللبنانية ريتا خاطر ترجمته إلى العربية وتولى مراجعته الدكتور والباحث اللساني جوزيف شريم وقد أصدرت المنظمة العربية للترجمة هذه الترجمة سنة 2008 في طبعتها الأولى، بدعم من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، وتولى توزيع الكتاب مركز دراسات الوحدة العربية. وقد ذكرت المترجمة في مقدمتها عددا من العقبات التي اعترضتها ولعل من أهمها فوضى المصطلحات التقنية وما يستدعيه هذا الوضع من ضرورة ابتكار كلمات مستحدثة، بالإضافة إلى عدم تطابق جدول المصطلحات البلاغية الفرنسية مع جدول المصطلحات البلاغية العربية، فقد بيّنت ريتا خاطر «أنّ المساحة الدلالية لمصطلح بلاغي في لغة ما لا تتطابق والمساحة الدلالية لمصطلح بلاغي مقابل في لغة أخرى» . كما تشير المترجمة إلى أنّها استنبطت بعض المصطلحات التقنية لسدّ فجوة في هذا المجال الذي تترجم، وضربت على ذلك مثالين: أحدهما كلمة (implicitation) وتترجمه ب(إضمارية) والثاني (illocutoire) وتترجمه ب(كلاميّ منطوق). ولئن كان اختيارها للمقترح الأول موفّقا عموما لانسجامه مع اختيارها ترجمة عنوان الكتاب (impliciteיL) ب(المضمر)، فإن المقترح الثاني يبدو بعيدا عمّا نجده في الأدبيات اللسانية العربية المتواترة بين الباحثين العرب المتخصصين. فمحمد صلاح الدين الشريف وشكري المبخوت ومحمد الشاوش وعبدالله صولة وخالد ميلاد، على سبيل المثال، يرون أنّ (illocutoire) يترجم ب: (لا قوليّ). ولعلّ هذا المقترح قد استقر ولا نرى حاجة إلى إلى ترجمته بمقترح جديد، لكيلا تزداد الفوضى الاصطلاحية استشراءً. هذا بالإضافة إلى المفاهيم الثقافية الخاصة التي تتطلب من المترجم الإحاطة بثقافة اللغة المصدر بحيث لا يزيغ في الفهم عن المقصود. كما تعرّضت المترجمة إلى ما تثيره قضايا الترادف والاشتراك الدلالي (تعدد معاني الكلمات) وكثرة المصطلحات وتتابعها في بعض المقاطع وترجمة الأمثلة والشواهد الأدبية (الشعر، خاصة) بالإضافة إلى كثرة الاقتباسات... والملاحظ أنّ ما نودّ لو يسعى مترجمو المنظمة العربية للترجمة إلى التنازل عن بعض مقترحاتهم الشخصية في الترجمة قصد توحيد المصطلحات، خصوصا إذا كانت ترجماتهم تصدر عن المنظمة نفسها. ف(polysemy) عند الطيب البكوش وصالح الماجري مترجمي كتاب «في سبيل منطق للمعنى» لروبير مارتان (2006) يُترجم ب»تدالّ» ومثلهما فعل عبدالقادر المهيري في ترجمته كتاب «مدخل لفهم اللسانيات» لروبير مارتان نفسه (2007). أمّا ريتا خاطر فتترجمه ب»تعددية معاني الكلمات»... ولا نعدم اقتراحات مختلفة في ترجمات أخرى صادرة عن المنظمة العربية للترجمة. ولعلّ تقديم كتاب «المضمر» مناسبة للدعوة إلى وضع مسرد اصطلاحي جماعيّ يُستشار فيه المترجمون المتخصصون في اللسانيات، كي يتمّ اعتماده بوصفه قاعدة بيانات قابلة للإثراء والتعديل، وتكون لها صبغة عملية في المساعدة على توحيد المصطلحات التي بدأت تستقرّ بدائلها العربية. ويبدو أنّ هذا العمل مقدور عليه، وهو بمثابة الخدمة الجليلة التي تخدم القارئ العربي المتابع، كيلا يذهب به الظنّ إلى أنّ اختلاف مقترح التعريب مردّه اختلاف التصوّر، والواقع أنّ كثيرا من حالات الاختلاف إنما ترجع إلى ضعف التنسيق وغياب المسرد الجماعيّ المحيَّن الذي يجب أن يكون على ذمّة المترجمين المتخصصين كي يساعدهم في عملهم ويجعل الرهان معقودا بمزيد إثراء الأسطول الاصطلاحيّ العربيّ في مجال اللسانيات. لقد بذلت المترجمة جهدا مضنيا في ترجمة هذا الكتاب «صعب الفهم في لغته الفرنسية الأمّ» ، والذي «يتطلب أن يكون القارئ محصَّنا بثقافة ألسنية ، وحتى عامة، واسعة ومعمقة» .