المصائب والأهوال، مهما عظمت وتركت في النفوس من أوجاع وانكسارات، ومهما خلّفت من تشوّهات ودمار في البيئة والممتلكات، فإن في وجهها الآخر تسكن العبرة وتبرز من ركامها شواهد لكنوز من الحكم والدروس التي تحتاج لمن ينقبون عنها لاستخلاصها كما يستخلص الذهب من خليط الأشياء والمعادن وهكذا ينبغي علينا أن ننظر للأمور، فقد مضى على كارثة السيول التي اجتاحت عروس البحر (جدة) ما يقارب الثلاثة أشهر، تكشفت خلالها ثغرات عديدة وقصور في الكثير من نواحي الفكر والإدارة والتخطيط وآليات المسائلة، كما وامتحنت حتى الجانب الإنساني فينا، والذي حققنا فيه درجة عالية من الامتياز وفي ذلك فضل من الله، فقد كان محصنًا بالدّين والأصالة من كل اجتياح، ولقد تبدى ذلك جليًّا في التكافل والتعاون الاجتماعي مع المنكوبين، وكم أسفنا أن هذه الروح الإنسانية والإحساس بالمسؤولية تجاه بعضنا البعض لم يتقمصها الذين كان بيدهم أمر التخطيط لمستقبل هذه المدينة الواجهة والعنوان الأبرز لكتاب يطالعه كل عام القادمون إلينا عمرة أو حجًا أو زيارة، فالعروس مدينة غير عادية ومدخل لبلد غير عادي، ويجب أن يؤخذ أمر تخطيطها وبنائها وفق هذا المفهوم، وفي اعتقادي أنه ليس من سبب يحول دون تحقيق قدر عالٍ من الكمال في تخطيطها وأعمارها من جديد بمواصفات ومعايير عالمية. وكما عبر قائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين حفظه الله في أكثر من موقف فإن المال موجود ومتوفر وقد بذل بسخاء لأجل المواطن في الماضي والحاضر. فقط علينا أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نخشى الله في الأمانة. إذًا علينا أن ننهض من رمادنا من جديد كما يفعل طائر الفينيق، ولنترك الكارثة وراء ظهورنا ولتمضي التحقيقات والمساءلات في سبيلها لينال كل مقصر جزاءه وننصرف لرسم العروس من جديد فنبني مدينة بمواصفات الألفية الثالثة، وبكل تأكيد نحن قادرون على ذلك وبجدارة، بل ونستطيع تغيير موقع العروس أن تطلب الأمر، أو تبديل وجهة تمددها أن رأينا ذلك، فليس الأمر مستحيل، فقد بنيت مدن بكاملها من جديد وفي مواقع غير مواقعها القديمة، حدث ذلك في الماضي وفي حاضرنا الحديث بزمن قياسي، وليس تجربة كاوست ببعيدة عنا، فباستطاعتنا أن نطبق تجربتها فنعهد ببناء جدة لشركات وبيوتات ذات خبرة عالمية، فكاوست ليست مجرد جامعة وحسب وإنما هي مدينة نموذجية متكاملة، بنيت لتستقطب إليها القرى من حولها والبيوتات المتناثرة، بل ولتجذب إليها حتى العروس جدة لتنضوي في ركاب حضارتها ورؤيتها للمستقبل. إذًا نحن لدينا كل عناصر النجاح وأمامنا تجربة حية ونموذج يمكن السير في إثره لتحقيق ما نريد ونحلم. نافذة: الكوارث لا تتوقف.. ولكن علينا أن نسبقها بالخيال والتوقع لننجو منها أو نخفف من آثارها.