ربما يكون مما تفرضه علينا المرحلة القادمة الاهتمام بالإتقان في الأعمال أيا كان نوعها, أو ما يطلق عليه بالمصطلح الإداري الجودة ، فلا تكاد تجد مؤسسة تحترم نفسها وتمتلك رؤية إستراتجية لتسيير أعمالها دون أن يكون فيها مكان لإدارة الجودة وتحقيقها . ومؤسسات التعليم العالي يجب أن تكون على قائمة تلك المؤسسات ومن أشدها اهتماما بالجودة في آليات أعمالها ومخرجاتها لتحقيق أهدافها وبلورة رسالتها, ونحن على وشك إنهاء عقد من الزمان منذ بدء تأكيد مفهوم الجودة في مؤسسات التعليم وإشاعة ثقافتها أصبح الاعتماد الأكاديمي للبرامج وما يتعلق بها من ممارسات إدارية و تعليمية ومقررات وغيرها ذات أهميته بالغة فجودة بلا اعتماد إتقان منقوص . ومن خلال نظرة مرجعية للتطورات التي شهدتها الجودة والاعتماد الأكاديمي في مؤسسات التعليم العالي نستحضر كثيرا من الانجازات والممارسات والدورات والندوات وربما بعض المؤتمرات . والسؤال الذي يطرح نفسه هل تم تحقيق الجودة في برامج الجامعات ومخرجاتها ، بلا شك أنها قضية تحتاج لقياس وتقويم وفق أسس علمية, ومن باب الإنصاف فأن هناك مؤسسات أولت هذا الأمر جل اهتمامها وسخرت له كثيراً من إمكاناتها المالية والبشرية واستثمرت فيه رصيدها المعرفي المؤسسي وتواصلها المحلي و الدولي. وفي الجانب الآخر هناك بعض الجامعات مازالت تراوح مكانها دون خطة إستراتجية صادقة تمثل أطيافها أو رؤية مستقبلية تعكس أمال منسوبيها ، بل بعضها لم تخط لها رسالة واضحة تميزها عن غيرها و لا رؤية ترسم طريقها ولا قيم تهتدي بها, ثقافة الجودة عندها شبه محبوسة ، فهي ليست أولوية عند كثير من قياديي تلك الجامعات يرونها ترفا أكاديميا ومثالية أفلا طونية ، همهم تسير أمورهم الآنية في غياب رؤية إستراتجية بعيدة المدى، يكفي أن يكون المدير هو المسير الأساس والمخطط الأوحد. في مثل هذه المؤسسات تهمش القدرات وتبدد الموارد بدعوى الحفاظ عليها, ومن أخطر انعكاسات تلك السياسات فقدانها لقدرات علمية قد يكون من الصعب جدا تعوضها في سوق التنافس المعرفي القائم. الاستثمار في الجودة على كل المستويات والتخطيط والاستراتجي الفعال والجاد وفقا للأصول العلمية والادراية الجادة مكلف ويستهلك وقتاً أكبر ولكن نتائجه بإذن الله ستكون أكثر جودة وأقل تخبطا. لا شك أن أي خطة أياً كانت محكمة ومتقنة الخطوات وحسنة التنفيذ لا تضمن النجاح لكنها ترسم طريقه وتحدد مؤشراته، وتحفظ مجالاً للرجعة والتقويم والتعرف على مواطن القوة والضعف وإمكاناته للإصلاح والاستفادة من الطاقات والموارد وتوجيهها إلى المسار الأفضل . ولهذا فإني أرى جامعات ناشئة بدأ تأخذ مسارها الصحيح وتتلمس خطواتها المستقبلية بجدية وإتقان ، لاهتمامها بأمر التخطيط الاستراتيجي وفقاً لمعاييره العلمية والإدارية وذلك بتوجيه الطاقات الجادة وذات الخبرة والمصداقية للعمل وتوفير كافة الموارد المادية المطلوبة لتحقق ما تصبوا إليه ، وستحقق ما تريد بإذن الله عندما يتولى قيادتها طاقات علمية إدارية مؤهلة تمتلك الرؤية وتحترم الآراء الصائبة والجادة وإن كانت مغايرة في الرأي و تمتلك القدرة على استقلالية التفكير. بينما ستبقى جامعات قديمة تراوح مكانها وتتخبط في سابق أخطائها وذلك بسبب تمسكها بسالف ممارساتها وتهميشها للآراء الصادقة والتوجهات الطموحة . أرجو أن يتعدى الحراك الإستراتيجي للنهوض بمؤسسات التعليم العالي الاستهلاك الإعلامي و الإمعية الأكاديمية ليعبر عن رؤية الوطن ورسالته في عصر المعرفة الموجهة لم يعد فيه للممارسات العفوية مكان. المصداقية من أهم أسس صناعة الجودة وبناء التفكير الإستراتيجي والذي يجب أن يسبق أي تخطيط. المحسوبية و الانفرادية لا تتماشى من الرؤى الإستراتيجية. الجامعات تحدد مسيرة أمة ولا يمكن أن تكون حبيسة لنظرة أحادية أو تصور منفرد. ليس المهم أن يقوم غيرنا بإعداد خطط مؤسسات تعليمنا في شكل قشيب, بل المفترض أن تعبر عن رؤانا و رسالتنا وترسم طريقا واضحا لتحقيق أهدافنا. و ليس المهم أن نصنع خطة هزيلة لا تحقق طموحاتنا وتساهم في النهوض بمجتمعنا لكي يكون لدينا خطة توضع على الرف. عندما يساهم كل المنتسبين إلى الجامعة في صياغة رسالتها وتحديد رؤيتها وصناعة أهدافها فإنها تضمن ولاء الجميع لها النجاح بإذن الله, غير ذلك يظل حبرا على ورق. أمور مثل هذه يضطلع بمسؤوليتها قادة التغيير والارتقاء من اصحاب الرؤى الطموحة والإمكانات الفذه لا مديري تسيير للأعمال. أ.د .عبدالله هادي القحطاني - جامعة الملك خالد