بذات الرؤية التي جاء عليها التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، والساعية نحو تأسيس منهجية عمل ثقافي يتسم بالشمول والاستقرار، جاء التقرير العربي الثاني للتنمية الثقافية، مترسمًا لذات الخطى، وتبرز ملامح هذا التقرير في مقدمته التي خطّها قلم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة، ورئيس مؤسسة الفكر العربي، وجاء فيها قوله: يسعد مؤسسة الفكر العربي – للعام الثاني – إصدار هذا التقرير السنوي، وهو الإصدار العربي الأول المعني برصد الحراك الثقافي على مستوى الدول العربية وتحليله وتشخيصه للتعرف على حجم الإنجاز، والوقوف على مواطن القصور، وتقييم التطوّر الحاصل في آليات صناعة الثقافة ومخرجاتها ثم طرح النتائج على الساحة العامة، وخاصة بين يدي أصحاب القرار الثقافي. وقد كشفت الأصداء الطيبة التي حظي بها التقرير الأول وما أثاره من جدل ونقاشات عن تطلّع ساحتنا العربية لإعلاء قيم المراجعة والحوار، والنقد الذاتي الموضوعي البنّاء. ويمضي الأمير خالد في مقدمته مبينًا أن هذا التقرير بما تضمنه من ملفات ومحاور يؤكد الصلة الوثيقة بين الثقافة وبين التنمية الإنسانية بمفهومها الشامل، وأن التنمية الثقافية بتجلياتها المختلفة في التعليم، والإبداع، والإعلام والمعلوماتية هي قوة الدفع للتنمية الإنسانية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. مختتمًا المقدمة بالقول: ومن المؤكد أن حلم التقدّم الذي يراود كل إنسان عربي هو حق مشروع لأمّة شاركت بفاعلية في صنع الحضارة الإنسانية، كما أن تحقيق هذا الحلم يجب أن ينطلق من مشروع هدفه التنوير، ومضمونه الثقافة والمعرفة، ومنهجه العلم، ووسيلته قراءة موضوعية معمّقة لواقع الحاضر من أجل البناء عليها في استشراف المستقبل. مشيرًا إلى أن ذلك ما حرص عليه هذا التقرير ليكون لبنة مضافة إلى جهود المخلصين من أبناء الأمّة، الساعين لصياغة مشروعها الحضاري. كذلك يعطي منسق التقرير سليمان عبدالمنعم لمحة لمحتوى التقرير وأهدافه إذ يشير إلى أن الملفات الخمسة التي يتضمنها التقرير تحاول أن تقدّم إجابات على التساؤلات الهامة والملحّة في مجالات المعلوماتية والتعليم والإعلام والإبداع؛ بحيث يجاوب التقرير في مجال المعلوماتية مثلاً عن ماهية الأوضاع في العالم العربي في هذا المجال طبقًا لمؤشرات مجتمع المعلومات في ظل الاستراتيجيات الحكومية الحالية، وماهيتها أيضًا في ضوء البيئة الإبداعية، وعلى ذلك قس في مجال بحث التقرير وتدعيم البحث بالأرقام الموثّقة ما أمكن ذلك. مشيرًا كذلك إلى اختلاف منهجية هذا التقرير عن سابقه الأول الذي اهتم بالرصد والإحصاء، فيما تتركز منهجية هذا التقرير الثاني على التوقف عند قضية مهمة في كل ملف من الملفات والتطرق إليها بالبحث من منظور التنمية الثقافية، وبذلك ينتقل التقرير في منهجيته من «المسح الأفقي» إلى «التعمّق الرأسي». ملف المعلوماتية خصص التقرير ملفه الأول من جملة الملفات الخمسة ل»المعلوماتية» بوصفها رافعة للتنمية الثقافية، ويشتمل هذا الملف على خمسة فصول، حيث ناقش الفصل الأول «واقع مجتمع المعلومات من منظور ثقافي» وفي ذلك نظر إلى أوضاع العالم العربي طبقًا لمؤشرات مجتمع المعلومات في ظل الرؤى والاستراتيجيات الحكومية، ومن خلال المسح الإحصائي تبين أن دولة الإمارات قد احتلت المركز الخامس وفقًا لمؤشرات مدى اعتبار تقنية المعلومات والاتصالات أولوية حكومية، فيما حلت المغرب في المركز الحادي عشر بعد المائة عالميًّا. وفي ضوء مؤشر كفاءة البرامج الحكومية في الترويج لتقنية المعلومات والاتصالات حلت تونس في المرتبة الأولى عربيًّا والثالث عالميًّا، بينما قبعت ليبيا في المركز الأخير عربيًّا والثاني بعد المائة عالميًّا. وعلى هذا المنوال يمضي التقرير في هذا الملف لبيان موقع الدول العربية عالميًّا وعربيًّا وفقًا للمؤشرات المعمول بها فيما يتصل انتشار تقنية المعلومات في المكاتب الحكومية، ومدى توافر الخدمات الحكومية عبر الإنترنت، ومؤشرات الاتصال عبر خطوط الهتاف، وتكلفة الوصلات التلفونية المنزلية، وعدد مشتركي الهاتف المحمول، وبراءات الاختراع، وحرية الصحافة، وحماية الملكية الفكرية، والقدرة على الإبداع والابتكار والتي حلت فيها السعودية الأولى عربيًّا والسابعة عالميًّا، كما حلت السعودية الأولى عربيًّا أيضًا وفقًا لمؤشر نسبة الإنفاق على التعليم من إجمالي النتاج القومي وغيرها من المؤشرات الأخرى التي تتبعها التقرير، الذي أورد كذلك نقاط القوة والضعف في البنية المعلوماتية العربية من المنظور الثقافي؛ فمن بين الإيجابيات التي حققها العرب في هذا المجال حصولهم على متوسط درجات بلغ 4,4 من الدرجات البالغة 7 في توظيف تقنية المعلومات لتطوير الأداء الحكومي، وعلى 3,8 من 7 درجات أيضًا في تأهيل الموظفين على التعامل مع تقنية المعلومات، وعلى 3,6 في تقديم الخدمات الحكومية للمواطنين إلكترونيًّا، وعلى 3,8 في التوظيف التجاري للإنترنت. مشيرًا إلى أن الوضع المتدني لجودة نظم التعليم سيشكّل تحديًّا كبيرًا أمام التوظيف الثقافي للبنية المعلوماتية مصحوبًا بمخاوف من تدني دخل الفرد الذي يقلل من نسبة توظيف تقنيات المعلومات والاتصال ثقافيًّا. أما الفصل الثاني من الملف الأول فتناول «الوجه الرقمي الراهن للتنمية الثقافية العربية»، مبينًا أن المواقع الرسمية العربية لوزارات الثقافة تغيب عنها معظم الصيغ التفاعلية مع زائري مواقعها، عارضًا كذلك إلى واقع المتاحف العربية، ومعارض الكتاب، ودور النشر العربية وعدم استفادتها من التجارة الإلكترونية، وواقع المكتبات العربية الرقمية والغموض القانوني الذي يلف التعامل معها، وضآلة التفاعل مع المواقع الأدبية العربية بما يتقاطع مع المحتوى والثراء الكبير الذي تتميز به الثقافة العربية، منوّهًا إلى النجاح الكبير الذي حققته المواقع العربية المفردة للموسيقى والسينما، غير أن التقرير يشير إلى الضعف الشديد في محتوى البحث العلمي العربي على شبكة الإنترنت، مؤكدًا أن التغيير المطلوب في توظيف المحتوى العربي على شبكة الإنترنت تكتنفه صعوبات عدة تتعلّق بأوضاع حرية التعبير، وحرية تداول المعلومات، ومدى الاقتناع بحق الجمهور في الحصول على المعلومات، داعيًا إلى تحفيز رأس المال العربي للاستثمار في مشروعات التوظيف الثقافي لتقنية المعلومات وتقديم خدمات وبوابات ثقافية قائمة على الربح. الفصل الثالث تناول « الدور المحتمل للمعلوماتية في دعم التنمية الثقافية، مركّزًا على ضرورة إشاعة حرية التعبير بوصفها الضمانة الأساسية لمنتجي الثقافة وناقليها ومستهلكيها. أما الفصل الرابع فقد استعرض «قنوات ومسارات توظيف البنية المعلوماتية» داعيًا إلى الانتباه إلى تحدّي «الغمر بالمحتوى» الأجنبي الذي يتسلل بسرعة إلى الساحة العربية، مؤكدًا أن هناك إمكانيات لم تستغل لعمليات تشبيك عربي على الإنترنت للربط بين الأدباء والمؤسسات الثقافية ومؤسسات البحث العلمي. خالصًا من ذلك إلى جملة من التوصيات من بينها التوجه نحو الانسياب الحر للمعلومات، وحث الأجهزة الرسمية العربية على دمج تقنيات المعلومات في برامجها التنموية، وضرورة الموازنة بين ضرورات الانفتاح على الآخر والانبطاح أمامه، والاهتمام بالبعد الاقتصادي في المشروعات الثقافية، ورقمنة المحتوى الثقافي العربي، والعمل على تحسين مرتبة الثقافة في أوليات الدول، وغيرها من التوصيات الأخرى. أما خامس فصول الملف الأول «نحو رؤية مستقبلية لتنمية الثقافة العربية من منظور معلوماتي»؛ وفيه يؤكد التقرير أن أساليب الرقابة الإلكترونية وشرطة الإنترنت لن تفلح أمام تيار المدونات الجارف. التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي ثاني ملفات التقرير تناول «التمويل واستقلالية الإدارة في التعليم العالي» عبر أربعة فصول، تناولت تباعًا؛ إدارة التعليم العالي وأزمة الاستقالية، ومشكلة تمويل التعليم العالي، ومبادرات في تنويع التمويل وفي إقامة الوقفيات الجامعية، مع عرض لنماذج عالمية في الوقفيات الجامعية. ويشير التقرير إلى أن الاستقالية تعني مبدئيًّا خضوع الشؤون المالية والإدارية والأكاديمية لمنطق المؤسسة الإداري والمالي وللسلطة الأكاديمية المتمثلة في الأكاديميين والمعايير المتداولة محلّيًا وإقليميًّا وعالميًّا، استنادًا إلى أهداف الجامعات ولوائحها التنظيمية. خالصًا من مناقشته لكل هذه الموضوعات إلى أن هناك مبادرات لدعم التعليم العالي غير انها محدودة ولا ترقى إلى مصاف مواجهة التحديات المالية التي تواجه الجامعات العربية بما يحد من استقلاليتها، مشيرًا في ذلك إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحتل موقع الصدارة فيما يخص تمويل التعليم العالي عن طريق الأوقاف. الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام الملف الثالث تناول «الخطاب الثقافي في وسائل الإعلام» عبر ثلاثة فصول؛ ناقشت تباعًا منهج الخطاب الثقافي ومفهومه، وصورته في الصحافة والفضائيات العربية، حيث يشير التقرير إلى أن هناك جملة من الأهداف المرجوة عند تحليل الخطاب الثقافي بالمجلات والقنوات والبرامج التلفزيونية الثقافية، ومن بين هذه الأهداف: تحليل القضايا العامة والأطروحات التي يتبناها الخطاب، وتحليل سماته وعناصر تشكيل هويته، والروافد الأساسية التي تشكله، مع تحليل لآليات الدمج التي يعتمد عليها في بناء أطروحاته المتعلقة بعلاقة الذات الثقافية بالآخر، مشيرًا في ذلك إلى أن الخطاب الثقافي العربي ينحو في بعض الأحيان إلى نقد الآخر الغربي وخصوصًا الأمريكي منطلقًا في أطروحته من نقطة «السيطرة المادية على الحياة في الغرب»، ومن أن التنوّع السياسي والعرقي في الغرب يعكس في جوهره حالة اقتصادية تعتمد على الطبقية الشديدة.، بجانب تأكيده على أن عقيدة الإسلام ترتكز على فكرة قبول الآخر. كذلك يشير التقرير إلى أن العلاقة بين الثقافة والسلطة في العالم العربي شديدة الالتباس، وهناك نوع من الإصرار من جانب المثقفين الذي يظهرون داخل الخطاب الصحفي للتأكيد على فكرة الاستقلال عن السلطة السياسية حتى ولو كانوا رسميًّا جزءًا منها من منظور فصلهم بين فعلهم الثقافي ووظائفهم لدى السلطة السياسية. ويخلص التقرير بعد استعراضه لعدد من النقاط والنماذج إلى أن معالم خطاب المجلات الثقافية العربية تتميز باتفاقها حول صفة التمسك حول مركز معين، بما يمكن معه اعتبار خطابها «خطابًا متمركزًا» إما حول شخص، أو ذات قطرية، أو تمركز حول المكان، أو الزمن، أو حول القيمة. أما في ما يخص الخطاب الثقافي في الفضائيات العربية فيلحظ التقرير تفاوت البرامج القافية العربية في درجة اعتمادها على اللغة العربية الفصحى كأداة لتقديم المحتوى، مؤكدًا أن الفضائيات قد أثرت بشكل ملحوظ على اللغة بحيث أصبحت هناك لغة خاصة بالإعلام لها منهجيتها الخاصة، مشيرًا إلى النسبة الكبيرة التي تستوردها القنوات العربية من البرامج الأجنبية وبخاصة من الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، منوّهًا إلى خطورة تأثير ارتفاع معدلات اعتماد الكثير من القنوات العربية الأرضية على البرامج المستورة، وينظر تأثيرها السالب في مظاهر الخلل المشاهد في العلاقات بين أفراد الأسرة العربية، وتغير الذوق العام للإنسان العربي على مستوى الملبس وأسلوب الحديث والذوق الموسيقي، وتهديد اللغة العربية بشيوع اللهجات واللكنات العامية واللغات الأجنبية، وتراجع كثير من القيم العربية الأصيلة، ومظاهر الذوبان في الآخر والتمثل به في كثير من جوانبه. ملف الإبداع رابع الملفات «الإبداع» اشتمل على ثلاثة فصول، خصص أولها لملف الإبداع الأدبي، وفيه يشير التقرير إلى أن خطأ مقولة أن الرواية أصبحت ديوان العرب بديلاً عن الشعر، برغم إشارته إلى أن الرواية أصبحت تغري الكُتّاب جميعًا من واقع قدرة الرواية على استيعاب أزمات المجتمعات العربية المتفاوتة. ويعرض التقرير إلى الطفرة الروائية التي حدثت في المملكة العربية السعودية ودخولها في سوق التنافس على الجوائز العربية والعالمية، مشيرًا في ذلك إلى أن حرمان الرواية السعودية من اللائحة النهائية لجائزة «بوكر» في نسختها العربية لم يوقف «الانفجار» الروائي في السعودية. أما في مجال الشعر فيشير التقرير إلى أن مجلة «شعر» المصرية كانت بمثابة الصدمة الأولى في تاريخ الشعر العربي من واقع نهجها الذي اتخذته بمعاداتها الصريحة للشعر العربي في صورته التقليدية الموروثة، بما يعد انفصالاً واضحًا من قبل المجلة على المشروع الشعري العربي في سياقه التاريخي. وبمثل ما يشير التقرير إلى خطأ توجه مجلة شعر فإنه في الوقت نفسه يشيد بما تم في مهرجان سوق عكاظ في دورته الثانية والتي شهدت تطوّرًا يمكن أن يدل على نهوض مرحلة مهمة بالنسبة للشعر العربي مما قد يسهم في إعادته لواجهة المشهد الأدبي العربي. غير أنه يشير كذلك إلى أن أزمة القارئ الشعري هي الأبرز المنظورة في مبيعات الدواوين التي تصل أرقامها إلى حد «فاضح» بحسب وصف التقرير. وفي سياق الصراع بين الأجناس الشعرية في المشهد العربي يؤكد التقرير أن «الشعر الحر لا يستطيع أن يحل محل الشعر التفعيلي مهما بلغ عدد التفاعيل، مثلما لا يقدر أيضًا أن يلغي قصيدة النثر التي تختلف عنه تمامًا. وهذا ما يجب العمل على إيضاحه عربيًّا حتى تكتسب هذه المصطلحات مفاهيمها الحقيقية». ويعرض التقرير في هذا الملف إلى واقع السينما والمسرح العربي، وما يصحبهما من مهرجانات، وأثر ذلك على المشهد العام العربي، ومدى تأثيره. الحصاد الفكري السنوي آخر الملفات «الحصاد الفكري السنوي» أشار إلى الجدل الكبير الذي شهده العام 2008 في أوساط المثقفين والمؤسسات الثقافية حول حرية تداول المعلومات بين ضرورات حقوق الإنسان ومتطلبات الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي، كما ينوّه إلى ما أحدثته ثورة الإعلام من تغييرات في الحياة العربية واختراقها للنسيجين الاجتماعي والثقافي بجانب القيمي، كما شهد العام نفسه جدلاً محتدمًا حول كيفية ممارسة الدور الإقليمي العربي، ومظاهر التحول الاقتصادي المتسارع وظهور الأنماط الاستهلاكية في المجتمع العربي. مؤكدًا أن أكثر ما ميّز الاهتمام الفكري العربي بالنظام الدولي انتباهته إلى موضوع المجتمع المدني وموقع مسألة التنمية في نشاط مؤسساته، وغير من الملاحظات التي رصدتها التقرير حول الحصاد الفكري السنوي في المشهد العربي بعامة.