أضحكني رجلان: رجل يَسمع منك الفائدة العلمية، والنكتة النادرة، فتعجبُه، ثم لا يلبث أن يضمك وإياه مجلس قريب، فيسوق لك تلك الفائدة بعينها، ويتحفك بها على أنها من مفرداته وبنات أفكاره، ويستعجبُك منها، ويقول لك: هل فهمت؟ عرفت؟ هل أنت معي؟ فإن لم تعجب ولا ضحكت عجبَ هو، وكفاك همَّك. ورجل آخر تحدثه حديث المحِبِّ المفيد، وتريد منه أن يجمع حواسَّه لتنساب معك، ولا يفوته من جواهر الكلام شيء، وتظنه منهمكا معك طرباً لحديثك، فإذا به يسألك في وسط الكلام عن أمر آخر خارج عن موضوع كلامك بعيد كلّ البعد، كأن يسألك عن اسم سيارتك وأنت تحدثه عن عمر بن عبد العزيز، أو يسألك عن المسألة الأكدريه وأنت تحدثه عن فوائد الصوم، أو تحدِّثه عن الحرب العالمية الأولى، فيقول لك: جاءكم مطر هذه السنة؟ أو يتركك ويشتغل بمطاردة ذبابة في البيت، كل ذلك عن سذاجة وفوضى ذِهنيّة. هذا الصنف من الناس مشوش الفكر لا يفهم ولا يصبر على الفهم والاستماع حتى يستريح بالسؤال عما ورد في الخاطر، وأذهانهم يقوى تذكرها للأشياء عند استماعهم إلى غيرهم, وهي في كثيري الكلام أكثر من المقلين، وفيهم ذكاء, وثوب ذكاء مرقّع بخيط غباء, ولقد عانيتُ منهم على ضحكي منهم، وأما من يفعل ذلك تغافلاً وتغابيا؛ لأنه ملّ من حديثك، أو كان غير راض عنه، ولا راضيا عنك- وعلامة ذلك كثرة التفاته وحركته وعبثه بالهاتف الجوّال، وتسكيت الأولاد ولو كانوا ساكتين، وردّهم حين دخولهم وإدخالهم بعد ردّهم ومناجاة الصاحب بالجنب، وتفتيش الأوراق، وإكثار الحركة- فهذا من الذكاء المكشوف الذي يحسب من ألوان التغافل- ومن التغافل ما هو محمود-وهذا ليس منه.