(عفا الله عمّا سلف)، (تلك أمّة قد خلت)، ما مضى فات، (لكيلا تأسوا على ما فاتكم)، هذه حقائق ثابتة، وقوانين راسخة، توحي لك بالقناعة، أن ما مضى لن يعود، ولذلك يقول الغربيون: لا تطحن الطحين، ولا تجرّب نشر النشارة، وهذا معناه النهي عن اجترار الماضي، ولكاتب أمريكي يُدعى: جون كاوبر بوز، كتاب بعنوان: (فن نسيان البغيض)، يرى أنك لن تشعر بالأمان المريح، والطمأنينة، والسعادة حتّى تنسى كل ماضٍ بغيض. قال أبو الطيب المتنبئ: لا أَشرئِبُّ إِلى ما لَم يَفُت طَمَعاً وَلا أَبيتُ عَلى ما فاتَ حَسرانا ومن تهوّر فرعون وتهوكه بعثرته الماضي، يقول لموسى عليه السلام: (قال فما بال القرون الأولى). فكان لسان الحال يقول: اخرس، ولا تنطق ببنت شفة عن قرون سلفت، ولسان المقال ينادي: (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى). يقول دايل كارنيجي: هناك وسيلة واحدة تمكننا من الاستفادة من الماضي، وذلك عن طريق تحليل تلك الأخطاء، والإفادة منها، ونسيانها، إن إعادة الماضي محاولة لرد النهر إلى مصبه، والميت إلى بيته، والطفل إلى بطن أمه، والحليب إلى الثدي، وهذا لن يكون أبدًا. يقول الشاعر: فَلا تَهلِك عَلى ما فاتَ وَجدًا وَلا تَفرِدكَ بِالأَسَفِ الهُمومُ إن محاولة إصلاح أمر فرط ومضى مستحيل، وهذه المحاولة في حد ذاتها عجرفة ونكسة، أمّا استفادة العبرة، واستجلاء الحكمة من تلك التجربة المرّة فأمره مرغوب فيه. قال أبو الطيب المتنبئ: لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ فَما يَديم سُرورًا ما سُرِرتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الغائِتَ الحَزَنُ وأنشد ثعلب اللغوي لبعضهم: لا أَحسِبُ الشَرَّ جارًا لا يُفارِقُني وَلا أحُزُّ عَلى ما فاتَني الوَدَجا وقد لام الله أعداءه المنافقين لأنهم لاموا أنفسهم على تركهم الاحتياطات الأمنية بزعمهم، فوقعوا في أسر الماضي: (لو أطاعونا ما قُتلوا) فكان الجواب: (قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين). وهذه ترجمة لقصيدة عالمية، يقول صاحبها: لكل علّة تحت الشمس علاج، أو لا يوجد أبدًا. فإن كان يوجد فحاول أن تجده، وإن لم يكن موجودًا فلا تفكر فيه، فلو اجتمع لك أطباء العالم ما أوجدوه. وقال الفلاسفة: الكائنة التي تستطيع تغييرها فداؤها الاحتيال، والكائنة التي لا تستطيع تغييرها فعلاجها الصبر والنسيان. والنسيان نعمة، لأنه مقبرة للمآسي، وحجاب عن الآلام، ودواء من الأوجاع، وعزاء وسلوان عن كل مفقود.