عادت إلى الواجهة هذه الأيام قضية حدود حرم المدينةالمنورة، وخصوصاً بعد تغطية "المدينة" المستمرة للخلاف الدائر حولها، واللجنة المشكلة من هيئة كبار العلماء لبحث الموضوع والرفع به للمقام السامي. وفي هذا الصدد دعا الشيخ صالح المغامسي رئيس مركز بحوث ودراسات المدينةالمنورة إلى تعامل الصحافة مع الموضوع على أنه قضية شرعية، وقال في تصريح خاص نشرته "المدينة" في عددها يوم الجمعة الماضي: إن على الإعلام التعامل مع الموضوع على أنه موضوع ديني لا مجرد خبر صحفي. وبقدر ما يؤكد تشكيل اللجنة في حد ذاته من أهمية الموضوع ومن تجاوب المسؤولين وولاة الأمر مع ما ينشر في الصحافة، إلا أن هناك تساؤلاً مطروحاً عن جدوى النقاش في الموضوع وفائدته، وعن أهمية تشكيل لجنة على مستوى كبار العلماء لبحثه، رغم وجود قضايا أهم من ذلك في رأي البعض. وقد أكد عدد من الباحثين الذين تناولوا موضوع حدود حرم المدينة أهمية الموضوع لما يترتب عليه من أحكام فقهية شرعية، وأشاروا في معرض ما نشرته لهم "المدينة" في وقت سابق إلى تعلّق بعض الأحكام الفقهية بحرم المدينة. * تحريم الصيد وقطع الشجر: ففي كتاب "الأحكام الفقهية المتعلقة بالمدينة النبوية" لمؤلفه الأستاذ يوسف بن مطر المحمدي صاحب الموسوعة الفقهية للمدينة المنورة، يستعرض المؤلف عدة أحكام يختلف فيها حرم المدينةالمنورة عن غيره، ويذكر منها حرمة الصيد في حرم المدينة وقطع الشجر فيه، وهو ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، مستدلين بحديث جابر في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيْها، لا يقطع عضاهها ولا يُصادُ صيدها"، وبما رواه مسلم عن عاصم الأحول أنه قال: سالت أنساً: أحرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ قال: نعم، "هي حرام، لا يُختلى خَلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "لو رأيت الظباء في المدينة ما ذعَرتُها"، وعرض المحمدي أدلة الجمهور كاملة وردّهم على الحنفيّة ومن قال بعدم حرمة الصيد في حرم المدينة. ويناقش المحمدي الحكم والجزاء المترتب على قتل الصيد أو قطع الشجر في حرم المدينة ورجّح أن من قطع شجرحرم المدينة فإنه يعاقب بالسلب أي يؤخذ سلبه –وهو ثيابه وفرسه وسلاحه ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب القتيل- وهو قول قديم للشافعي رجحه النووي، مستدلاً بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم لمن وجد أحداً يقطع من شجر الحرم بأخذ سلبه، وذهب المحمدي أيضاً إلى ترجيح قول الشافعي في القديم والرواية عن أحمد الذي يفيد أن الجاني على الصيد أو قاطع الشجر بأنه يُسلب مستدلين بحديث سعد بن أبي وقاص حينما طلب منه أهل العبد رد ما أخذ من غلامهم.. "معاذ الله أن أردّ شيئاً نفّلنيه –أي أعطانيه– رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرده عليهم. كما استطرد المحمدي بذكر قول العلماء في من صاد أو قطع الشجر في الحرم فلم يسلبه أحد أن عليه الاستغفار والتوبة. ومن المسائل المتعلقة بحرم المدينة ما اختلف فيه العلماء قديماً من حكم إدخال الصيد للحرم إذا كان قد صِيد خارج الحرم، ويرجّح المحمدي هنا مذهب الجمهور بجواز إدخال الصيد إلى الحرم ومن أدخله فله التصرف فيه بملكية تامة، مستدلين بحديث أنس رضي الله عنه والذي فيه ملاعبة النبي صلى الله عليه وسلم لأخي أنس بقوله: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟" يعني طيراً كان معه في المدينة. * تراب الحرم وحجارته: ولِتراب الحرم وحجارته أيضاً حكم خاص يذكره المحمدي في كتابه، وهو كراهية إخراجه خارج حدود الحرم، فيكره إخراج تراب الحرم وحصاه وأحجاره وما صنع منها قياساً على حرم مكة لأن العلة فيهما واحدة وكلاهما حرم. * حمى الشجر: أما حمى المدينة وهو الذي يبدأ بعد انتهاء الحرم مباشرة فذكر المحمدي نقلاً عن النووي اتفاق الشافعية على تحريم قطع خلاه وهو العشب والكلأ الرطب، مع اختلافهم في قطع الشجر، وأما مالك فيرى أن الحمى للشجر فقط دون الصيد. * جراد الحرم: وللجراد في حرم المدينة حكمه أيضاً، فبالرغم من جواز أكله وصيده إلا أنه لا ينبغي التعرض له في حرم المدينة كحرم مكة كما يذكر المحمدي، لكنه لا يرى أخذ السلب على صائد الجراد معلّلاً ذلك بسد الذريعة وجهل كثير من الناس بحكمه. * المجاورة بالمدينة: ومن أحكام المدينة الخاصة بحرمها ما تتوق إليه نفوس كثير من المسلمين وهو المجاورة في المدينة، وهنا ينقل المحمدي عن بعض العلماء القول باستحباب المجاورة بالمدينة، وهو مرويّ عن الإمام أحمد "لأنها مهاجر المسلمين"، ويُورِد عن أبي سعيد الخدري أنه قال لأبي سعيد مولى المَهري حينما أراد الخروج من المدينة لجهد وشدة أصابتهم في المدينة قال له: الزم المدينة، ثم ذكر أبو سعيد كلام النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه للمدينة بالبركة في الصاع والمُد.. الخ. * الخروج من المدينة: وعن حكم الخروج من المدينة بعد السكن فيها يقسّم المحمدي الخارج من المدينة إلى صنفين: أحدهما الخارج لرخص سعر أو بحث عن رخاء، ويقول إن هؤلاء تركوا خيراً كثيراً لأن المدينة خيرٌ لهم فكان الأولى الاحتساب والصبر في المدينة لأن الصابر ينال شفاعة خاصة بأن يكون له النبي صلى الله عليه وسلم شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليأتينّ على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاءً، ثم يأتون فيحتملون بأهلهم إلى الرخاء، والمدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون". والصنف الثاني من الخارجين من المدينة هم الخارجون من أجل حاجة كتجارة أو جهاد أو نحو ذلك فإن ذلك ليس داخلاً في معنى الحديث. * الإحداث في المدينة: ومما يترتب على حرم المدينة من الأحكام كما يقول المحمدي: حرمة إحداث الحدث في المدينة، والحَدَث الظلم والمُحدِث الظالم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ".. من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً..". ومن الأحكام أيضاً: أن من أراد أهل المدينة بسوء سواء بإرادة وعزم أو بفعل فهو متوعّد بالوعيد الشديد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انْمَاعَ –أي ذاب- كما يَنْماع الملح في الماء. * الموت بالمدينة: ويتطرق المحمدي في كتابه إلى فضل الموت بالمدينة وحكم نقل الموتى إليها، ويقرر فضل الموت بالمدينة بالأدلة العامة كقوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمُتْ، فإنه من مات بالمدينة كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة"، وعن بحث مسألة الموت داخل الحرم، وحكم نقل من مات خارج الحرم ليدفن داخله، قال إن الظاهر جواز نقل من مات خارج المدينة وتيسرت الوسائل لنقله ودفنه بها دون مشقة أو تأخير. * اتصال المساكن بحرم المدينة: كما تطرق المحمدي لمسألة اتصال المساكن بحرم المدينة وامتداد مساكن الحرم إلى خارجه، إذ يقول: العمران المتصل بداخل حرم المدينة يأخذ حكم الحرم من تحريم الإحداث في ذلك المكان، وعدم تخويف أهله إو إرادتهم بسوء، وأن من مات فيه فكأنما مات بداخل الحرم فينقل ويدفن في داخل الحرم، كما ورد في قصة سعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص اللذين توفيا في العقيق ونقلا إلى داخل الحرم (على القول بخروج العقيق من الحرم) ولكن هناك اختلاف يسير وهو أنه لا يحرم فيه الصيد وقطع الشجر بخلاف داخل الحرم الذي يحرم فيه كل ذلك.