طبقًا لقواعد “لعبة الأمم” كما أوضحها عميل الاستخبارات الأمريكية مايلز كوبلاند في كتابه مطلع الستينيات، فثمة لاعبون يتحلّقون في الوقت الراهن حول طاولة اللعبة بمقر الاستخبارات المركزية في لانجلي، بينهم لاعب أو أكثر يتقمّصون شخصيات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، ومرشد الثورة علي خامنئي، وثمة خبراء وعلماء نفس واجتماع يوفرون للاعبين الرئيسيين قاعدة بيانات يجري تحديثها على مدار الساعة. وكنا قد أشرنا في مقالنا السابق إلى تقارير تحدثت عن الدفع بعناصر استخباراتية أمريكية وبريطانية إلى داخل إيران قبل نحو ثلاث سنوات، وأن الرئيس الأمريكي أوباما الذي أعلن سعيه لمعالجة الملف النووي الإيراني عبر الدبلوماسية والتحالفات، قد وافق قبل نحو ثمانية أشهر على تعزيز خيار الاعتماد على بدائل استخباراتية عوضًا عن اللجوء إلى العمل العسكري المباشر ضد طهران. فماذا جرى منذ ذلك الوقت؟ وما هى خيارات سائر الأطراف الآن بعد اشتعال الوضع الداخلي في إيران عقب انتخابات رئاسية جرى التشكيك بقوة في نتائجها، وبدا معها أن الحصانة المعنوية لمرشد الثورة على خامنئي قد تضعضعت بوضوح، إلى حد دفع متظاهرين إلى المطالبة علنًا ولأول مرة بإسقاط نظام ولاية الفقيه؟! الحديث عن نشر عناصر استخباراتية غربية في إيران، يقطع بأن ثمة دورًا خارجيًّا في الأحداث، وهو ما يعلنه النظام الإيراني أيضا في سياق حربه ضد معارضة داخلية يريد أن يصمها بالعمالة للغرب، لكن هذا ليس كل الحقيقة، فالعوامل الذاتية في إيران ربما بلغت مرحلة من النضج تهيئ البلاد لتغييرات جذرية بعد سنوات من الحروب والصراعات استبد خلالها الملالي بالرأي، وتدنت الأوضاع المعيشية للسكان، فيما تصاعدت أعداد العاطلين بوتيرة متسارعة ساعد عليها حصار اقتصادي أمريكي طويل، وقيود اقتصادية غربية امتدت على مدى سنوات الثورة، فضلاً عمّا صنعته ثورة تقنيات الاتصال (البث الفضائي - والهواتف النقالة) من تأثير واسع بدت معه آليات الدعاية للنظام عاجزة عن خداع الجماهير طول الوقت. العوامل الموضوعية المحيطة بإيران بدت هي أيضًا مثيرة لشهوة “تصدير الثورة” لدى حكام طهران، بعدما خلص الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش إيران من ألد خصومها في العراق (صدام حسين)، وفي أفغانستان (نظام طالبان)، الأمر الذي شجّع نظام الملالي على استعجال لعب دور إقليمي بدت ثماره واعدة لطهران مع انكفاء عربي على الذات، وتنافس دولي وإقليمي على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، لا تريد إيران أن يكون على حسابها، وتتطلّع إلى حصة معتبرة فيه راحت تجرّب انتزاعها عبر تحالف إستراتيجي مع دمشق، وتبني لحركة المقاومة في جنوب لبنان (حزب الله)، ودعم غير مسبوق لها في غزة (حركة حماس)، ثم واصلت طهران تطلّعها إلى تعزيز أدوات هذا الدور عبر امتلاك خيار نووي إيراني، ظل هاجسًا لطهران على مدى أكثر من أربعين عامًا منذ عهد الشاه السابق، واستمر حلم الخيار النووي مع كل حكام طهران الحمائم منهم والصقور، واستمر الاستعداد لحفل تنصيب القنبلة ببرنامج طموح للصواريخ التي يمكنها حمل رؤوس نووية من طراز شهاب (3) وسجيل. ثمة دوافع إذن للتغيير في الداخل عبر عنها الإصلاحيون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبعد إعلان نتائجها “المزيفة” على حد وصفهم، وأكدتها جماهير خرجت إلى الشوارع في ثورة غضب يطالب بعضها بإزاحة نجاد باعتبار أنه رئيس جرى تنصيبه وفق انتخابات مزيفة، فيما يطالب بعضها الآخر بإسقاط ولاية الفقيه، والإجهاز على نظام الملالي برمّته. هذا الانقسام بذاته ربما كان عاملاً إيجابيًّا بالنسبة للنظام الإيراني، فالأصوات المطالبة بإسقاط ولاية الفقيه تعزز مقولة النظام بوجود أيادٍ أجنبية تسعى لهزيمة إيران بغير حرب معها، كما أنها تضعف موقف المعارضة المطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات. ما تريده واشنطن هو أن تستيقظ ذات صباح فلا تجد أثرًا لنظام الملالي في طهران، لكن ما تعمل لتحقيقه عبر استخباراتها وأدواتها الدبلوماسية وغير الدبلوماسية الأخرى قد لا يصل إلى هذا الحد، فثمة إدراك في واشنطن لصعوبة إسقاط نظام ولاية الفقيه، وثمة استعداد للقبول بمجرد إضعافه، وفضح ممارساته، وإثارة جدال داخلي في إيران حوله، وهو ما حدث ويحدث في الوقت الراهن، ويستعيد الأمريكيون ذكريات سقوط الاتحاد السوفيتي، ومعه دول حلف وارسو كلها، فالأمر برمته بدأ بوصول زعيم “إصلاحي” (ميخائيل جورباتشوف) إلى الكرملين لأول مرة منذ الثورة البلشفية في عام 1917م، سرعان ما قام بهدم الأسس النظرية والفلسفية للنظام فيما عرف بثورة “البريسترويكا” و“الجلاسنوست” التي سرعان ما قوضت بدورها دعائم مهتزة للنظام الشيوعي السوفييتي برمته. هذا المشهد هو حلم واشنطن، وحدوثه بهذا النجاح المذهل وغير المتوقع في الاتحاد السوفييتي، يجعل تحقيقه غير مستبعد من باب أولى في طهران، لكن ثمة فرص لا ينبغي تفويتها لتفعيل مثل هذه السيناريوهات، فالانتخابات المثيرة للجدل فرصة، ووفاة منتظري فرصة، واستدراج النظام الإيراني إلى مواجهات أكثر عنفًا قد تطال رؤوس معارضين كبار مثل محاولة اغتيال مهدي كروبي قبل أيام في بلدة قزوين الشمالية، قد يتيح هو أيضًا فرصة أخرى تفتح الباب مجددًا أمام احتمالات سقوط النظام برمته، ولا ينسى الأمريكيون كيف استطاع رجال الخوميني استثمار حريق بدار سينما عبدان راح ضحيته مئات الضحايا لتأجيج مشاعر الشعب ضد الشاه السابق وإسقاطه بعد ثلاثة شهور فقط من حريق دار السينما. لو قادت المشاهد الراهنة في إيران إلى إسقاط النظام بغير حرب، فقد يكون هذا هو أكبر إنجازات عصر أوباما نحو “نصر بلا حرب”، وقد يكون مصدر ارتياح إقليمي في منطقة عانت كثيرًا من الحروب والاضطرابات منذ ثورة الخوميني، لكنه أيضًا قد يكون مصدر قلق لكثيرين، فالمشهد الراهن في إيران قد يكون أحد تجلّيات ما أسماه المحافظون الجدد في واشنطن ب“الفوضى البنّاءة”، والنجاح في طهران قد يغري كثيرين في واشنطن بمحاولة تكرار النموذج في مناطق وأقاليم أخرى، الأمر الذي قد يفتح الباب لسنوات من الاضطراب في الإقليم، تراه واشنطن “اضطرابًا تحت السيطرة”، ويراه سواها في المنطقة أسوأ السيناريوهات على الإطلاق. [email protected]