هكذا يسير المثقف السعودي في حبل مشدود تنهشه السباع والأوهام من كل جانب ولايستقر على حال من القلق فيبقى مشروعه مرايا متجاورة لاتعطي قالبا متوازي الأطراف كما هي الصورة الفوتوغرافية .. لا أشد ولا أقسى نكاية على المثقف من الإنكار الذي يعانيه في محيطه ، بل النكاية الكبرى سموم الألقاب المخزية ذات الدلالة المباشرة والجرس العنيف ، صحت أم لم تصح ، فتصبح عارا ملتصقا لاينفك إلا بمحوه من خارطة بلده .. والفاجعة أن يتقيح التحريض والتأليب والاستعداء لتصبح ممارسة دعوية وحسبة يتقرب بها إلى الله تعالى ، وأضعف الإيمان الشماتة وأمانٍ بالمقت والهوان والتهميش والطرد من رحمة الله .. وعندما أحس طه حسين بمثل تلك التجربة من رعاع لايتقنون غير فن التهريج والعنف أدرك أنه يعمل ، وقد يعتور أعماله الخطأ والنسيان لكن غيره متفرغون للإيذاء فكتب إهداء في أحد كتبه : ( إلى الذين لايعملون ويؤذيهم أن يعمل الآخرون ) أستاذنا المثقف بدأت مشاكساته وترعرعت وفعلت فعلها إبان حرب الخليج (1990) التي كشفت رؤى مفارقة لبعضها ، وعرت انتماءات متوارية ، وأقصت مواقف وسطى لليمين أو اليسار فهي إما مع أو ضد . واجتاح العرب موجة من الحراك الثقافي الذي أججه السياسي ، وراح الأتباع يصارعون نصرة للأسياد فأتيحت الفرصة للجعجعة والصياح والنحيب والانتصارات الوهمية والحقيقية من كلا الطرفين . بعدها أصدر صاحبنا الجزء الأول من ثلاثيته ( أطياف الأزقة المهجورة)عام (1995 م) فكانت حدثا جميلا «غير الغير» كجنس أدبي وثقافي سيري مفاجئ لنمط الشعرالسائد باتجاهيه الإسلامي والحداثي ولاتهون (شقة الحرية ) للقصيبي . فكان صاحبنا قبل ( العدامة ) ملتحفا بالبريستيج والرسمية والدبلوماسية فيفصح فجأة عن « صورته الحقيقية « كما يرى الصحويون فلقد تحرك في الهواء الطلق ليصدم القارئ بعاديته وممارساته الطبيعية ونوازعه المتناقضة كرجل شارع ومواطن لامثقف إرسالي كما تفصح عنه صورته الفوتوغرافية. والعجيب أن ( كاراكتر) أي شخصية عامة في مجتمعنا له دور في تصنيف المتلقي المؤدلج على الأقل وبالتالي يتسرب إلى الرؤية والفهم مهما كتب هذا الكاتب من مواعظ وقيم مثلى . ومثل هذا التصنيف – للأسف – يتقبله بعضهم كانتقاص طبيعي من خصومه فيتقبله كضريبة للنضال والصراحة والحقيقة. في (أطياف الأزقة المهجورة) وخاصة الشميسي بدت جرعة الوصف قوية والمباشرة في ذلك الوصف مقززة في رسم لم يعتده قراء هذا البلد عن بيئته مما أثار ردود فعل متباينة مرعبة ، وهذا لاشك من تأثير قراءات شتى شكلت عقل المبدع في خليط ينزف من اللاشعور بتأثير تلقائي خاصة أن هذا الكاتب نسق أفقي ترتع فيه كل القراءات ، ولكنه صدم من ردة فعل القراء العنيفة من المؤدلجين المشحونين بأسباب مقت رؤية تخالف النسق الصحوي الهادر عبر الكاسيت ومنابر الجمعة . وتغلب الحس على العقل في الوقوع على مفاصل الرواية الباذخة وتناسى الخصوم ماحفلت به الروايات من مطارحات مثيرة ومونولوجات داخلية مثقلة بعقل الشاب النجدي ذي الطموحات الغارقة في الخيال وراحوا يقصقصون العبارات على مقاسات أهوائهم . صاحبنا لم يتوقع ردة الفعل العنيفة التي وقعت كالذباب على « الحسي « فانزعج من انتقاء الرؤية واستغلال التأويل في قراءة الإبداع والجهل في طبيعة وقراءة الأعمال الفنية ، ولايبعد أن ندم على هذا التوسع في مراهقة البطل الفكرية وتصاعد التأجيج ، وانتشرت رائحة المقت ، وولى الأنصار عن صديقنا ، وراح يدافع عن نفسه كمتهم فهو لم يرزق روح الصراع والطبيعة القتالية ، فهو وحيد أبويه وربى على الثقافة والفن والسلام والترف ، بل أعطى نفسه للجميع ولم يسيج نفسه كبعض المثقفين ببرج عاجي .. يرد على المكالمة ويناقش ويجيب ويبحث للإجابة ويعين ويعاون ! ولما استحكمت الحلقة على صاحبنا توقف عن النافذة التي يطل بها (الشرق الأوسط ) فانطفأ نجمه فجأة وصدرت مقابلات ينعي بها نفسه وبلغة متحسرة يثمن فيها استقلاله المادي الذي لولاه لايدري في أي واد يهلك فيه ، لكنه راح يقرأ ويكتب ويضع في الأدراج ويستمتع بوقته ويراقب من بعيد حتى عاد من جديد عبر الصحيفة الخضراء . لاأشك أنه روائي لكن من أي درجة ؟ أدع الإجابة لمهندسي النقد ، لكني لدي قناعة تامة بأنه – من الناحية الفنية – أصدر روايتين مميزتين ورائعتين هما ( شرق الوادي ) و (جروح الذاكرة ) ، وتبقى الأخريات مميزة جدا ومحفورة في الأدب السعودي مقارنة بالغثاء الصادر في السنوات الأخيرة . وبالرغم من الثقل العقلي والنظرة الفاحصة للمثقف وقناعته التامة بطفولة الفكر الداخلي الراهن إلا أن الاستجابة للتوترات الغوغائية حادة وفاعلة في نفسه ، بل بعضهم في مشروعه الفكري ، وتلك كارثة مربكة حتى للجيل الصاعد الذي لايدري في أي بقعة يستقر فيها ، فسلطة العوام طاغية ورهيبة وحادة قد تفني الكاتب وتجعله في مهب الريح وحياة مرتبكة تؤثر أيضا على حياته العائلية فكيف بكتاباته ؟ وهكذا يسير المثقف السعودي في حبل مشدود تنهشه السباع والأوهام من كل جانب ولايستقر على حال من القلق فيبقى مشروعه مرايا متجاورة لاتعطي قالبا متوازي الأطراف كما هي الصورة الفوتوغرافية .. وللحديث بقية