أكدت الأستاذة المساعدة بكلية الشريعة بجامعة أم القرى الدكتورة ابتسام بنت بالقاسم عايض القرني أن الوقف باب عظيم من أبواب العمل الصالح الذي يضمن لصاحبه رصيدا جاريا من الحسنات لا ينقطع بعد مفارقته الدنيا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقةٍ جاريةٍ ، أو علم ينتفع به ، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له)، وتقديم الوقف في الحديث على غيره له دلالته في التنبيه على أهميته وضمان استمرار ثوابه، وهو أفضل ما يستثمر فيه العبد أمواله فهو تجارة رابحة لا تبور و صدقة مستمرة لا تنفد ، وكم من ميت مازالت حسناته حية من بعده ، بل إن بعض الناس يحصد من الحسنات بعد موته أضعاف ما أدركه في حياته؛ لأن نفع وقفه الذي قدمه في حياته يستمر من بعده، وكلما عمت مساحة الانتفاع زاد الأجر وعظم الثواب. مشيرة الى أن الوقف مؤسسة اقتصادية خيرية مهمة ، ومورد تمويل متجدد لعب دورا رائعا في بناء حضارتنا الإسلامية ؛ إذ مول الكثير من المؤسسات والمرافق العامة الدينية والصحية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية ، وقد أدرك المسلمون هذا الأثر الفاعل للوقف في تنمية المجتمع فضربوا أمثلة رائعة في التنافس والتسابق في ميادين الوقف ابتغاء ثواب الله ورضوانه حتى روي أنه: (لم يكن أحد من الصحابة ذو مقدرة إلا حبس)، فكان من ثمار ذلك التنافس المحمود في مجالات الوقف هذه الحضارة الرائدة التي تعتبر شاهدا على أهمية الوقف في عمارة الأرض. مضيفة القرني أن هذا الماضي المشرق يبرز لنا الحاضر المؤلم والذي ظهر فيه تعطل المؤسسة الوقفية عن الكثير من عطائها ، فقد أثبتت بعض الدراسات أن الوقف تراجع عن أداء دوره الحضاري. ولكي يعود الوقف إلى دوره الفاعل في تنمية المجتمع لا بد أولا من الاهتمام العلمي به و من ثم استنهاض الهمم لتفعيله واقعا معاشا، وهذا ما صنعه علماؤنا عبر التاريخ فبذل الفقهاء جهودا عظيمة في تأصيل نظام الوقف وتأسيس استقلاليته في صورة مؤسسة مستقلة ذات شخصية اعتبارية بما يكفل للوقف الاستقرار والاستمرار وحفظ حرمته من الضياع أو السلب، ولتسهيل عملية استثمار أموال الأوقاف وتنميتها ، وتعظيم عوائدها ، وامتدادا لهذه الجهود جاءت عناية المؤسسات العلمية المعاصرة وعلى رأسها الجامعة الإسلامية الرائدة بالمدينةالمنورة وعناية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد للارتقاء بدور الوقف الحضاري ليعود إلى سابق عهود ازدهاره ، ومع انتشار الوعي مؤخرا بأهمية الوقف بزغت بعض النماذج الوقفية المشرقة. كما هو الشأن في الكراسي العلمية المدعومة وبعض القاعات العلمية في بعض الجامعات كان ذلك ثمرة من ثمار المؤتمرات والندوات الوقفية ومنها هذا المؤتمر الوقفي الثالث. كان الوقف في السابق يركز على وقف العقارات من الدور وغيرها لأنها هي الثروة المهمة في حياتهم ، أما الثروة المهمة اليوم في حياة الناس فلا تتمثل في الأراضي الزراعية والعقارات من مساكن ونحوها فقط، فالمدينةالمنورة شهدت أول الأوقاف في العهد الإسلامي كما نص على ذلك ابن كثير – وهي أموال مخيريق – وكانت سبعة بساتين جعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوقافا بالمدينة. ووقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حين أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها فقال :"يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟" قال :"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها "قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب ، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه". كما شهدت المدينة وقف عثمان –رضي الله عنه – لبئر رومة ، وغيرها الكثير من أوقاف الصحابة –رضوان الله عليهم -.فاجتمع عبق المكان (مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم) مع عبق البر والخير (الوقف) ، مع ما حظي به المؤتمر من اهتمام ولاة أمر البلاد - وفقهم الله- ؛ لما لهم من الاهتمام البالغ بتفعيل دور الوقف واستعادة منزلته الرفيعة في مهبط الوحي أرض الحرمين الشريفين.