هاجر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة بعد أن بلغت محنة الاضطهاد أقصى مداها بعد ثلاثة عشر عامًا من المبعث، وتحاشيًا للأذى والتعذيب، هاجر عليه الصلاة والسلام مُستخفيًا عن عيون المشركين، وهو يعلم علم اليقين أن الله ناصره ومؤيده، وكان رفيقه سيدنا أبا بكر -رضي الله عنه- في رحلة تاريخية، وتحوّل حاسم إلى بناء دولة الإسلام لتبقى على امتداد الزمان، والذي أوجد أثرًا عظيمًا في سيرة الدعوة الإسلامية. وكانت الهجرة منطلقًا للدعوة، وتمكينًا لدين الله في الأرض فأصبحت، حدثًا مهمًّا في تاريخ الأمة الإسلامية. وفي لحظة تجلٍّ إيمانية يهتف فيها الصدِّيق: الصحبة يا رسول الله.. الصحبة..! ولمّا حانت ساعة الرحيل، وقف عليه الصلاة والسلام على مُرتفع بيت صاحبه، ونظر إلى أم القرى بنظرة حزينة وقال مودّعًا: (والله إنك لأحب أرض الله إلى الله، وإنك لأحب أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت..). وأخذا طريقهما إلى غار في جبل ثور بأسفل مكةالمكرمة.. فأقاما فيه ينتظران أصداء الرحيل..! وجاء اليوم الثاني يحمل الأنباء عن خروج نفر من طواغيت قريش يقصدونه.. وعندما وصلوا إلى غار ثور، وأقبلوا على الدخول إليه، صدّهم عنه نسيج عنكبوت على فتحة الغار!! وكانت حمامتان قد وقعتا تريدان أن تنالا بركة القرب من المصطفى صلى الله عليه وسلم.. ويلحق بهما سراقة بن مالك، وقد أغرته المكافأة التي خصّتها قريش لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم.. فيشير عليه الصلاة والسلام إلى فرس سراقة، فتسيخ أقدام الفرس في حجارة الجبل..!! فقال الصديق -رضي الله عنه- لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لو أحد نظر إلى قدميه لرآنا؟ رد عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا..! ويتفل عليه الصلاة والسلام على قدم سيدنا أبي بكر، وقد لدغه الثعبان، فيشفى من ترياق رسول الله، وهذا أكبر دليل على أن سيد البشر سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر غير عادي..!! فقد أفاض الله عليه من الأسرار والخصائص الربانية ما لا يوجد عند البشر.. فيقول صلى الله عليه وسلم: “إني لست كهيئتكم.. إني يطعمني ربي ويسقيني”. رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-. ويحل عليه الصلاة والسلام بالمدينةالمنورة بالهدى والنور، ويستقبله الأنصار بالترحاب وهي تغني وتنشد طلع البدر علينا.. وتمتلئ المدينة من نوره صلى الله عليه وسلم، ويتبارى القوم ليحل ضيفًا عليهم. ويبني عليه الصلاة والسلام مسجده حيث بركت ناقته في مربد لغلامين يكفلهما أسعد بن زرارة.. وكان الغلامان يريدان النزول عنه لله، فأبى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلاّ ابتياعه بثمنه.. وكان المربد تنبت فيه نخل وشجر، وتختفي في ترابه بعض قبور المشركين، فأمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالنخل فقطع.. وبالقبور فسوّيت.. وبالخرائب فسوّيت بالأرض.. كانت القبلة في ذلك الوقت هي بيت المقدس.. وبنى المسجد بالطوب اللبن، واشترك عليه الصلاة والسلام في حمل اللبنات والأحجار مع المسلمين رغم كواهلهم.. وكانوا يروحون ويسلون أنفسهم من تعب وعناء الحمل والثقل والبناء بنشيد يقولون فيه: اللهم لا عيش إلاَّ عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة. وتم بناء المسجد المتواضع الذي هو ربى ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة وملوك الدار الآخرة، والمزكين لأنفسهم والمقومين لها.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله صحبه وسلم.