في النصف الأول من القرن العشرين استخدم الشعراء تقنيات حديثة حيث تأثروا بالموجات والمدارس الأدبية التي اجتاحت أوروبا خلال تلك الفترة من الزمن، فكان ذلك التأثير إمّا عبر الترجمات ليشكل طريقًا غير مباشر لتلقي النص الأصل حيث أن الكثير من الترجمات قد تفقد حسها الأدبي أو بعض أجوائها الحسية المكتنزة في ذات الشاعر وبيئته ومشاعره، وإما أن يكون ذلك التأثير مباشرًا بأن يكون الشاعر متحدثا ثانٍ للغة الأصل وهو أوقع من حيث اقتناص الفكرة والانغماس في النص ومحيطه وثقافته وظروفه الخاصة التي كتبت فيه. ومن أولئك الشعراء الذين استخدموا هذه التقنيات الحديثة وتأثروا بها هو بدر شاكر السياب؛ شاعر الألم والمعاناة، فهو من أولئك القلة الذين وضعوا بصمتهم على ماء الشعر لتعطي تدفقًا شعريًّا أثر على الكثير من الشعراء الذين جاؤوا من بعده. تأثر السياب بشكل مباشر بالشعر الإنجليزي فهو حاصل على دبلوم في اللغة الإنجليزية. أشاد السياب بعدة شعراء وكتاب إنجليز أطلع عليهم ومنهم على سبيل المثال شكسبير حيث أشاد بمسرحه ولغته الشعرية ومنهم إليوت في قصيدته (الأرض اليباب). أثناء دراستي وقراءتي لكلا الشاعرين والقراءة في أكثر من مصدر يذكر تأثر السياب بإليوت تبادر في ذهني هذا التساؤل: هل أجاد السياب توظيف إحدى أهم التقنيات وهي”تعدد الشخوص والأصوات” (Multiple Narrators)، والتي تشكل ثيمة أساسية في الشعر الحديث. سأتناول في هذه الورقة (أنشودة المطر) لكونها تعد من أفضل قصائد السياب من جهة ولتوفر عدة تقنيات بجانب تقنية “تعدد الشخوص والأصوات” كتكثيف الصورة والتصوير المسرحي والصور المجتزئة (Broken Images) التي تشكل مترابطة مع بعضها البعض كيانًا متسقًا للنص، لأقارنها بقصيدة (الأرض اليباب) من حيث توظيف هذه التقنية ومدى تأثر السياب بإليوت. يقول الشاعر في أنشودة المطر: تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ. كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام: بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال قالوا له: “بعد غدٍ تعودْ.. “ لا بدَّ أن تعودْ وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ في جانب التلّ تنام نومة اللّحودْ تسفّ من ترابها وتشرب المطر؛ كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباك ويلعن المياه والقَدَر وينثر الغناء حيث يأفل القمرْ. في هذا المقطع من النص تظهر لدينا عدة شخوص “الطفل، الأم ، الصياد” ولكن هذه الشخوص جاءت منعزلة في عالمها الخاص تحت سلطة المتحدث الأول للنص الذي لم يمكنها من الانعتاق والتنفس للبحث عن مساحة ضوئية أو عن نبرة خاصة بها حيث بدت أصواتها الداخلية تتلاشى تحت سلطة هذا المتحدث. فالطفل هنا لجّ في السؤال عن أمه والأشخاص المتأملة قالوا له “لابد أن تعود... بعد غد تعود”، كما ينقل لنا المتحدث ذلك ومن ثمّ تأتي في النهاية صورة الصياد التي انغمست في عزلة تامة. فالصياد يعيش عزلته ولا يجمع شيئًا من شباكه التي يرتقب من وراءها بصيصًا من الأمل في عتمة يتلاشى فيها الغناء. المتحدث الأول في النص له صوته الخاص ونبرته الخاصة التي تسيطر على النص وتحكمه من المقطع الأول في النص إلى المقطع الأخير هائمًا تحت وطأة التدفق الشعوري. فالمتحدث ينتقل من تصوير لآخر ومن لوحة لأخرى ليضع لمساته الأخيرة على التصوير الأول ليربطه مباشرة بآخر وهكذا.. لتظهر اللوحات متسقة مع بعضها البعض في نفس موحّد تحت وطأة التدفق الشعوري. وإن كانت هذه ميزة جيدة لبنية النص أتقن السياب ربطها بخيط متين، فإنها قد خنقت بقية الأصوات حيث أننا لا نجد لها نبرة خاصة بها. على العكس تمامًا.. في قصيدة (الأرض اليباب) فلو تناولنا الجزء الأول من القصيدة (The Burial of the Dead) “دفن الموتى” فإننا نجد هنالك عدة شخوص، على سبيل المثال (The Hyacinth Girl) التي أهداها الشخص الغائب في النص “بنفسجة” حيث تخلق الفتاة في النص نبرة خاصة بها بعيدة عن المتحدث الأول فتقول: أهديتني بنفسجة بداية العام الماضي فأصبحو ينادونني (الفتاة البنفسجة) حينها وعندما عدنا متأخرين من حديقة البنفسج كان ذراعاك ممتلئين وشعرك مبتلاً لم أكن قادرة على التحدث كانت عيناي منكسرتين لم أكن حينها حية ولا ميتة ولم أكن أعلم شيئًا وأنا أبحث عن قلب الضوء، السكون. ففي هذا المقطع تطلّ علينا (فتاة البنفسج) كإحدى الشخوص لتصنع لها عالمًا خاصًّا بها بعيدًا عن المتحدث الأول الذي له صوته الخاص. وإن كانت هذه اللوحة منعزلة في إطارها الخاص لكنها في ذات الوقت نابضة نستطيع أن نستشّف منها أبعادًا وتساؤلات أبعد مما جاءت لدى السياب. وفي إحدى الشخوص تظهر لنا (العرّافة) كشخص آخر أيضًا: (مدام سوسوسترس).. عرافة شهيرة، انتابها نوبة برد مع الرغم من ذلك عرفت بأنها أبصر النساء في أوروبا بحزمة من الأوراق الماكرة قالت: هذه ورقتك بحار فينيقي غارق هذه اللؤلؤتان اللاتي كن عينيه وهنا (باليدونا)، سيدة الصخورر سيدة المواقف. وهنا الرجل ذو الثلاثة عكاكيز، وهنا العجلة. وهنا التاجر بعين واحدة. وهذه الورقة البيضاء، شيء ما يخبئه خلف ظهره منعت من الإطلاع عليه. لم أجد الرجل المشنوق أرى حشدًا من الناس، يسيرون بالتفاف في حلقة شكرا لك. إذا رأيت (السيدة إكويتون) أخبرها بأني جلبت الطالع بنفسي يجب أن يكون المرء حذرا هذه الأيام. ففي هذا المقطع أيضًا تتحدث (العرافة) وتصنع لنفسها عالمًا وصوتًا خاصًّا بعيدًا عن صوت المتحدث الأول في النص حيث يستشف القارئ التصوير الزمني والمكاني من ذات العرافة لينتقل القارئ حينها من لوحة إلى أخرى مغايرة تمامًا وبنبرة صوتية مختلفة يحّكمها التصوير الداخلي للمقطع. نجد أن الشخوص في (الأرض اليباب) انعتقت من سلطة المتحدث الأول ورسمت عالمها الخاص بعناية وبأجواء شعورية مختلفة ف(الفتاة البنفسجة) لها عالم خاص وأجواء خاصة، وكذلك (العرافة)، وصوت المتحدث الأول امتزج مع بقية الأصوات دون أن تخفت تحت سلطته. مقارنة مع السياب نجد أن تعدد الشخوص أخذت بعدًا واسعًا لدى إليوت فتوظيف هذه الشخوص وتعدد الأصوات التي امتلكت نبرة خاصة بها أضفى على النص مساحات روائية ومسرحية أبعد بكثير مما جاءت في شخوص (أنشودة المطر). في نهاية المطاف كانت هذه مجرد مقارنة في توظيف التقنية بين شاعرين وليس تعديًا على قامة مثل السياب. ومازلت أرى بأن السياب فتح بوابة للشعر الحديث مازال الشعراء يهيمون حولها. • ملاحظة: المقاطع مترجمة من قبل الكاتب (*) شاعر وكاتب من القطيف