ليعتبر البعض الحديث عن استثمار الثقافة خلال أزمه "كورونا " ترفًا وغير لائق بالطابع الدرامي لهذه الأزمة، غير أن الأمر لا يبدو كذلك، إذ يبدو مدهشًا استطاعة البشرية التأقلم مع الجديد عبر إقبالهم على الناتج الثقافي، كتعبير عن استمرارية الحياة، وتحدت كثير من مؤسسات دول العالم بحكمة عالية وطوعت الحجر الصحي شيئا نافعًا من خلال التعامل مع الثورة الرقمية التي استخدمها ملايين البشر من كافة أنحاء العالم، ونجد أن استثمار منتجات الثقافة الافتراضية القائمة على العرض المباشر نجحت في زمن كورونا، سواء القائمة منها على الاستعمال عن بعد، أو التي يتم تحميلها عن طريق النت، وازدهرت القراءة الالكترونية، ودلت على فرد ومجتمع مثقف اقتصاديًا ومتمكن من التعامل مع التطورات السريعة الكبيرة في النمو الاقتصادي لجميع الأنشطة المختلفة. والثقافة نمط حياة وهوية إنسان وتعزيز مكانة وطن وبناء مجتمع، وأول من عرف الثقافة "إدوار تايلور" في منتصف القرن التاسع عشر في كتابه الكلاسيكي "الثقافة البدائية" واشار إلى الصلة المعقدة بين الأشياء والأفكار التي تنتجها التجربة التاريخية للإنسان، وعرفها (ذلك الكل الذي يتضمن المعرفة المركبة المعقدة والعقيدة والفن والاخلاق والعادات وأي قدرات اكتسبها الانسان كعضو في المجتمع). ابن خلدون وصف الثقافة بالعمران الذي هو من صنع الإنسان، بما قام به من جهد وفكر ونشاط ليسد به النقص بين طبيعته الأولى حتى يعيش عيشة عامرة زاخرة بالأدوات والصناعات، والتعريف الشامل للثقافة: (طريقة الحياة الكلية للمجتمع بجوانبها الفكرية والمادية، وهي تشمل مجموعة الأفكار، القيم، المعتقدات، التقاليد والعادات، الأخلاق، النظم والمهارات، طرق التفكير، أسلوب حياة، العرف والفن والأدب، الرواية، وسائل الاتصال والانتقال، وكل ما توارثه الانسان، فالثقافة هي كل ما صنعته يد الانسان وانتجه فكره وتختلف من مجتمع لآخر، ولها أهداف تنموية نبيلة لابد من رعايتها وإرساء دعائمها في المجتمع المدني العصري، وأهمها ورائدها على الإطلاق إعداد الإنسان وبناؤه معنويا. والاستثمار في الثقافة منذ التاريخ القديم، فكان ازدهار الدولة العباسية يعود لإنفاق الخلفاء العباسيين السخي على الشعراء والعلماء والمؤلفين ومن ضمن عطاياهم يوزن كتاب المؤلف ويعطى مقدار وزنه ذهبًا، ونجد دويلات الأندلس الأمراء يتنافسون في تقريب الشعراء والعلماء من البلاط الملكي والحاشية ويعطونهم العطايا الجزيلة مما شجع الابداع والانتاج الثقافي وأحدث نهضة علمية، أمدت الثقافة العربية بمراجع وكتب أصبحت من الامهات في عدة مجالات، ولابد أن يستفيق المجتمع البشري بعد صدمة كورونا باستعادة قدرته على التكيف وإنتاج ذاته وأفكاره من جديد، بل يسعى إلى استثمار هذه الجائحة من أجل زيادة رصيده العلمي لاسيما علوم الاقتصاد والسياسة، وازاحة الكثير من مفردات الحداثة ومفردات ما بعد الحداثة، واستبدال مفاهيمه بمفردات اصطلاحية تفرضه عليه وقائع عالم ما بعد كورونا، لأن الفكر هو نتاج الواقع في جدلية العلاقة بين الواقع والفكر، وإلى أي مدى يمكن استشراف طبيعة مفاهيم وأفكار استثمار الثقافة في عصر كورونا أو ما بعد كورونا؟!، ومن الصعوبة الفكرية تحديد الى أي مدى يصل اليه الانسان لاستثمار الثقافة ما بعد كورونا لأنه مازال في موقع التحدي مع ما يمر به من الازمة، ونستطيع أن نقول: إن الاستثمار في الثقافة مع ما حمل لنا من رياح التغير السريع وما طرأ على المجتمع من تغير في العادات والسلوكيات بسبب الجائحة، لابد أن يكون الاستثمار ذا مردود ربحي من أجل خدمة الانسان وتطويره وتسويق إبداعه وإعادة صناعة الثقافة، التي هي جزء أساسي من التحول الوطني الطموح الذي تسير عليه بلادنا بقياده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده صاحب السمو الملكي محمد بن سلمان وتنص عليه رؤية المملكة 2030 على أن الثقافة "من مقومات جودة الحياة"، ووزارة الثقافة السعودية أعطت أكبر نموذج للاستثمار البشري بالتأهيل والتطوير والاستثمار الاقتصادي الذي يأتي تبعًا لذلك، باطلاق مبادرة تطوير المكتبات العامة وتتولى إدارتها هيئه المكتبات بتحويلها لمنصات ثقافية بمفهوم اجتماعي شامل وحديث تلقى فيها أنماط الابداع الثقافي كافة، لتعزيز مفهوم البيوت الثقافية بما يتوافق مع رؤية الوزارة منبثقه من رؤية المملكة تتكون من عدة عناصر: - مكتبة عامة تخدم الباحثين عن الكتب والمعرفة. - مسرح متكامل يقدم العروض المسرحية والموسيقية مع شاشات عرض مرئية وسينمائية. - قاعات متعددة الاستخدام ومنها التدريب لورش العمل المختلفة. - مناطق مفتوحة للقراءة. - مرافق خدمات عامة.. بتكوين ثراء فكرى وتنمية ثقافية، على أرض صلبة ولديها مبدعون في شتى المجالات وغنية بالصناعة الإبداعية في الحقول الثقافية المتنوعة، ولاستشراف الاستثمار الثقافي في عصر كورونا وبعدها: - التركيز على الاقتصاد المعرفي للإنسان بالتركيز على المادة الرمادية (القشرة الدماغية عند الانسان التي هي مصدر ثراء الشعوب فكريًا). - التركيز على الاستثمار الثقافي المؤثر المنتج وليس الاستثمار في الاثر الناجم عنه وذلك بإعادة النظر في البرامج والخطط التنموية بتحفيز الابداع ورعاية الموهوبين بما يتوافق مع استشراف استثمار الثقافة فيما بعد كورونا وتسهيل فرص النجاح لهم، ونقل التكنولوجيا الصناعية والزراعية وما يلزم ذلك ومصالحة الريف مع المدينة. - تنميه الوعي المجتمعي بالقيمة الثقافية الافتراضي وضرورة التعاطي معه. - ترويج عادة المطالعة الافتراضية التي هي أحد أنجح السبل لنمو الثقافة واستثماره. - الاستثمار في الاشخاص المنتجين والمستهلكين لها أيضا بتفعيل الخدمة المجتمعية والمبادرات في تبني مدرسة فنون تشكيلية او معهد للمسرح او التدريب على الابداع الروائي والشعرى وتمكين العامة بالمشاركة بتأسيس فروع للمكتبة العامة في جميع المناطق ومراكز الأحياء ليكون الكتاب في متناول الجميع وتفعيل جميع المنتجات الثقافية الشاملة بها، وتكون طوال العام وليس موسمية، وانشاء مراكز للأبحاث والأخذ بها في الخطط التنموية للبلاد. - دعم القطاع الخاص للمؤسسات شبابية تطوعية وتشجيع نشاطاتهم وخاصة في مجال الإبداع الفني والأدبي وتدعيم قدراتهم على النقد البناء وتنمية الوعي لديهم وتوجيههم نحو النشاطات الرياضية في جو من المنافسة الشريفة. - تأهيل البنية الثقافية التحتية عبر تأهيل مؤسسات المجتمع الوطني لكي تصبح منتجة وتعالج قضايا مجتمعية (التنمر، الابتزاز الإلكتروني...الخ). - ضرورة ان ينظر القطاع الخاص نظرة خاصة للاستثمار الثقافي: بتأسيس مشروعات وطنية ثقافية بتمويل من القطاع الخاص وفى النهاية هو نجاح لهذا الوطن العزيز، والإنفاق على نشر مؤلفات الكتاب الناشئين من أجل إيصال كتبهم الى القارئ بمبادرة من القطاع الخاص، ودفع منح تفرغ للباحثين من أجل انجاز مشروع إبداعي يخدم الوطن، وتطوير المناهج الدراسية بإضافة مادة دراسية للطلاب لزيادة الوعي وبناء الفكر الثقافي (البيئي، الصحي، الأمني، تأصيل التراث)، من مرحلة رياض الاطفال مرورا ببقية المراحل. لازدهار النمو الاقتصادي وللإسراع في عجلة التغير الحيوي للمجتمع ولإنجاح الخطط التنموية الشاملة لجودة الحياة من خلال بناء مواطن صالح واعٍ حكيم مثقف مدرك علاقته بالثقافة العضوية الديناميكية فهو محور وهدف التنمية في آن معًا.