وقفت على رصيف رقم 5 في محطة «كنج كروس» تأهباً لصعود القطار المتجه من لندن الى مقاطعة يوركشاير، وأنا أتذكر رصيف رقم 16 في محطة مصر لركوب القطار المتجه من القاهرة الى رملة الأنجب!، الرحلة في الحالتين تستغرق ساعتين، والقطار يغادر الأبنية المسلحة بعد محطة أو اثنتين، ليمرق أو يغرق في خضرة رائعة!، عشر محطات هنا ومثلها تقريباً هناك، أحفظها عن ظهر قلب، بدءاً بشبرا ونهاية بالرملة، مروراً بقليوب وشلقان والقناطر، ودروة، وشطانوف، والحلواصي، وأشمون، وسمادون! كان قطار يوركشاير يمضي في ثنايا الحقول، عبر إكسفورد، ستاتوفورد، كوفنتري، برمنجهام، نورويش، نوتنجهام، شيفلد، مانشستر، ليدز، يورك، وأنا أكاد أطير من فرط الذهول! يمضي القطار مخترقاً التلال الجميلة على الجانبين، وأنا ممتلئ بالحنين الذي لا يزول!، يشتعل الشوق في صدري، فأعالجه بالأغاني، وأنا أحتبس الدمع في العيون! إنها ذاكرة الياسمين التي تفوح منها الآن، رائحة الكتب المدرسية في الطريق من الرملة الى أشمون.. والكتب الجامعية في المسافة بين الرملة والقاهرة.. رائحة الأقمشة الجديدة في المسافة بين منوف والرملة، ورائحة الحلوى والمشبك القادمة من طنطا!، أتابع اشتباك اليدين، وانصهار القلوب، واشتعال الفرح في نظرتين، أو انسكابه في دمعتين، وعمال يصدحون بالغناء، ونسوة يحملن الأطعمة لسكان القاهرة، أصوات الباعة، ونفوس راضية، وأفئدة ملتاعة!. تذكرت فراندة بيتنا حين كنا نستمع بظل قطار العاشرة مساءً والذي يمضي مرتسماً على حوائطها في مشهد سينمائي بديع! تذكرت القناطر الخيرية، ومياه الرياح المنوفي من فرع رشيد، حين كان قطار يوركشاير يعبر تلال البيناين، وحيث تنساب أنهار إيرديل، وسويلديل، وأوز.. يا لهذا التشابه العجيب! لقد بنيت محطة مصر عام 1854 بعد أن وقَّع الخديوي عباس الأول عقداً مع المهندس الإنجليزي روبرت ستيفنسون ابن مخترع القاطرة ستيفنسون لبناء سكة حديد مصر، فيما أقيمت محطة كنج كروس عام1877 تذكرت القاطرة، وقلت لعلها هي نفس «البوخارية» التي كانت تصل محطة الرملة عند الساعة الثانية ظهرا!. وصلت الى يوركشاير حيث استقبلتني السيدة «جانيت» التي دعتني لزيارة منزلها الريفي حين تعرفت عليها في الطائرة التي حملتني باكياً من مطار القاهرة الى مطار هيثرو! سألتني عن سر بكائي، ولم أستطع الرد!، حايلتني بشفقة بالغة، مستعينة بمضيفة مصرية، وهي تسألني عن مهنتي وسبب سفري، وحين قلت: صحفي مسافر للعمل في مدينة الضباب! انفجرت ضاحكة وراحت تمطرني بكلام عذب، قبل أن تنصرف تماماً لتحويل مقعدها الملاصق لجلسة وعظ وإرشاد!. راحت السيدة جانيت تروي لي قصة يوركشاير وردة الشمال البيضاء، بتاريخها العريق وحضارتها المختلطة بالحضارة الرومانية، وبقصورها الفارهة، وأنهارها العذبة، وكلابها العالمية الجميلة! وحين وصلنا المنزل تولى الرجل تعريفي بأركان المنزل الجميل، وبغرفتي في الطابق الثاني المطل على نهر أوز، وفهمت أنه زوج مضيفتي! في الصباح، خرجنا للمرور على المزارع، حيث الجمال بلا روح! لم أستمع لصوت بقرة أو ساقية، ولم ألمح طفلاً يجري، أو فتاة تصيح! كان البرد يعمل عمله في الضلوع، وأنا أتذكر كيف كانت شمسنا تشرق في خشوع! لم ألمح مزارعاً على «السكة» وأنا أتذكر كيف مضيت بصديقي السعودي الشيخ طلال زاهد بين حقولنا، وكيف تسابق جميع الفلاحين على الفوز باستضافتنا! في المساء، لم أسمع موالاً أو نداء، خلف ناقة.. أو غناء.. لم أسمع من يردد «إن عشقت اعشق قمر» ومن يعشق القمر يصعد له السماء! وحين شعرت بالعطش، لم أجد «طرنبة» على البر، أو «قلة».. لم أستنشق رائحة ريحان أو نعناع أو شيح، ولم أستمع لعزومة واحدة خارجة من نبع الروح! بقيت مع الأسرة الإنجليزية يومي الإجازة الأسبوعية «السبت والأحد»!.. وحين عدت للزملاء في فليت ستريت «شارع الصحافة، حيث مقر «الشرق الأوسط» قبل انتقالها الى مبناها الأنيق في «هاي هيلبورن» أحكي لهم عن الفرق بين مزارع يوركشاير وغيطان الرملة، وما كان من السيدة جانيت وزوجها.. زاموا .. ولم يصدقني أحد!