مساء الأربعاء الماضي نشبت معركة أدبية بين طرفين، أولهما يُعارض الحنين إلى الماضي، باعتباره زمنًا وانتهى، والآخر «الأغلبية الكاسحة» يُؤيِّد بقوة، باعتبار أن استحضار أحداث وأماكن وأشخاص تعشقها الذاكرة مع مرارة الواقع تجعل السباحة للوراء أفضل من الوقوف أمام واقع مؤلم! وفي منتصف المسافة وتحت تكعيبة الحنين إلى الماضي، وقفت أستاذة في علم النفس تقول: عسى أن تستحق هذه البلاد ما تكتبه عنها، خاصة هذه «الرملة» التي تلوَّثت بقِيَم العصر الغادرة!. والحاصل أنني كنتُ قد تلقيتُ رسائل عديدة تدور حول نفس المساجلة أو المشاجرة المحببة، منها: لماذا أكتب لهؤلاء؟، وكيف يمكن تصنيف ما أكتبه أدبيًا؟، وكيف يمكن مقارنة الريف المصري كله بأوربا؟، وكيف لم تتمكَّن الغربة من إطفاء جذوة الحب المشتعلة؟!، وأمام هذه الأسئلة، وجدتني أعود لمقولة الفيلسوف الشهير جان بول سارتر والتي يرى فيها أنه ينبغي أن يكون القارئ حرًا فيما يطلب، وأن يكون الكاتب حرًا في إجابته! هذه واحدة.. والأخرى أن يُدرك الكاتب طول الوقت أنه لا يوجد فرق بين موضوعه وجمهوره، لأن غاية الأدب كانت وما تزال هي الإنسان!. لقد راقت لي هذه الرؤية خاصة، وأن أدرك أن كاتبًا مثلي لا ينبغي أن يتوجَّه إلى قارئ عالمي، بل إلى قارئ في وطنٍ خاص، وفي موقف مُحدَّد!. هذه عن الكتابة، أما عن القراءة، فلاشك أن أهل العصر الواحد والمجتمع الواحد خاصة من الذين عاشوا وعايشوا نفس الأحداث والمشاهد والمواقف لهم في نفوسهم ووجدانهم بل وحلوقهم مذاق واحد!. أكثر من ذلك، فقد قنعت تمامًا بأنه من الخطأ الفاحش أن يعتقد الكاتب أنه يستطيع أن يقطع صلته بطبقته الأصلية، وأن يتحدَّث إلى قرائه من أعلى عن القِيَم والمبادئ، معتقدًا أن ما يُقدّمه لهم من طرح، هو من قبيل «التفضُّل» أو «التكرُّم» أو «التنازل» أو «الهبة»!. أما بشأن ما إذا كان ما أكتبه شعرًا أم نثرًا، فاللغة بالنسبة للشاعر، مخلوق له كيانه المستقل، لكنها بالنسبة للناثر -مثلي- مجال نشاطه وامتداد لإحساساته، يستخدمها في دخيلة نفسه، ويحسها كجسمه، فهو محاط بمادة اللغة التي لا يكاد يعي سلطانها عليه، وهي قبل ذلك وبعده، ذات أثر بالغ في عالمه!. إن الناثر كما يقال دائمًا يجري وراء كلماته، متجاوزًا لها، ليقترب دائمًا من غايته في حديثه، وأما الشاعر فدون هذه الكلمات لأنها غايته.. الكلمات للشاعر عصية أبية المراس لأنها لم تستأنس بعد، وللناثر خادمة طيّعة، وهكذا أنا!. يقول المقريزي وهو من أعظم المؤرخين المصريين في النصف الأول من القرن التاسع الهجري في كتابه «الموعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»: (مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي، وموطن خاصتي وعامتي، فلا تهوى النفس غير ذكرها، ومازلت مذ شذوت العلم، أرغب في معرفة أخبارها، وما أصابها، ومساءلة الركبان عن سكان ديارها).. وهكذا في غربتي فعلت!. صحيح أن الرملة التي هي قريتي، أصيبت الآن بما أصاب مصر كلها من قِيَم العصر الغادرة، لكن ذلك لن يمنعني من التذكير، بما كان بل وبما بقي من ألوان وأشكال الجمال، فضلاً عن قِيَم الأصالة، والشهامة، والمروءة، والنخوة، والسماحة، والكرامة، والصفح الجميل!. كانت شمس الرملة قد بهتت قليلاً وسط غيوم لندن وأصابها الكلل، خاصة عند اقتراب الأصيل وبدء الشعور بالملل! أيامها كنتُ أتنقل على قدمي في «ميدان بيكادلي» كعصفور أصابه البلل!، لم أكن أستطيع أن أُغنِّي أو أُدندن للوطن، حيث الشعور بالوحشة وبالوحدة قد اكتمل!. أسابيع قليلة، ونفضتُ بلل الاغتراب عني، خاصة عندما قربت بين إحساسي والمدى، فلم أجد غير الصدى! فإذا ما صعدت إلى مترو لندن، أخفيتُ وجهي خلف جريدة أو كتاب، ومسحتُ وجهي بمنديل الغياب، ورحتُ أتأمَّل أسماء المحطات، علَّني ألمح لهذا الحديد.. باب!، علني اكتشف لهذا الدير البعيد.. ملاك.. ولهذه القبة.. حدائق، ولتلك الحدائق.. زيتون، ولذاك الكوبري.. ليمون، علني اكتشف ولو لمرة، أن المحطة المقبلة هي «غمرة»!. والواقع أنني لم أستمع لنصيحة زميلي الدكتور عادل درويش الذي أسكنني في منزل السيدة «بريسكوت» وهو يقول: تنازل قليلاً كي تعيش!، خالفتُ كذلك قاعدة قالها لي الزميل محمد متولي فضل: لابد مما ليس منه بد!، لن تستطيع أن تواصل بهذه الطريقة طالما كان في عقلك قيد! ما حيلتي وأنا أمقت طيور الصمت المطبق التي تأتي بها هنا أشباح الغروب، وتحطها كل مساء فوق رأسي! أهشها، فتحط حولي، في الحدائق وفي مداخل البيوت والدروب!. أتذكَّر أن التعامل مع الظلام في قريتي كان له نظام!، أتذكَّر كيف كُنَّا نتعامل معه في الحاكورة الضيقة بالغناء، لنطرد منها ما يُقال عن العفاريت الضخام!. الخلاصة أنني عندما سافرت إلى بريطانيا، مبكراً، لم أكن مسافراً للبحث عن خضرة أو ماء أو وجه حسن!، ولأن ذلك كذلك، ولأنني مسافر للعمل، فقد أقمتُ نفقاً عاطفياً سرياً بين لندن وشبين، مروراً بالرملة وأشمون!.