الليل في وهران له طعم آخر، هو مزيج من الحب والحيرة.. خرجت البارحة برفقة الشاعرة زينب لعوج، فور وصولي، كانت تريد التعرف بشكل حي على بعض أماكن روايتي الأخيرة.. تجولنا في وهران.. ذهبنا نحو: الأوبرا التي حضرنا فيها بعض التدريبات على مسرح الشارع، وعلى قراءة بعض نصوص الرواية: الغجر يحبون أيضاً، برفقة مدير المسرح الصديق مراد سنوسي، ثم مشينا نحو الدرب، الكاتدرائية، جامع اليهود أو الكنيس، وفوجئت بحب الناس. كنت في الكاتدرائية أنعت لزينب البوابة التي هرب منها محمد، أحد شخصيات الرواية، بعد كلمته النارية ضد التقتيل الاستعماري، برفقة رجل الدين مارسيل الذي أنقذه من أيدي الشرطة الاستعمارية التي كانت تنتظره عند المدخل الرسمي للكنيسة.. عند البوابة الخلفية التي تؤدي إلى الحديقة التي اختفى فيها محمد، أوقفني رجل كان بصحبة ابنيه، وذكرني بتفاصيل المدينة التي في القلب.. كان يعرفنا حق المعرفة.. وهو يصعد الأدراج، التفت نحوي وقال: أستاذي، وهران تحبكم كثيرًا.. نسيت أن أسأله عن اسمه، لكن الأمر لم يكن مهمًا، القلب ذاكرة تخزن كل شيء جميل، وهذا يكفي ليمنحنا الفرح كله. وعندما مشينا قليلاً، منحدرين نحو ساحة السلاح place d›arme ، ناداني شاب باسمي، التفتُّ، ثم رجعت نحوه وإذا به رشيد، أحد أهم بائعي كتب «بوكينيست» وهراني.. ورفض أن أغادر مكتبته دون أن يمنحني شيئًا مما يخفيه من كتب قديمة ثمينة.. كان برفقته رجل طيب كان يرد على صديقه البوكينيست الذي اتهمه بأنه لا يعرف الكتاب، فأجابه بابتسامة الواثق: لا يا صاحبي.. أعرف واسيني جيدًا، وكنت أتابع أسبوعيًا كل حلقات حصته الثقافية الحوارية: أهل الكتاب.. الحصة توقفت منذ عشرين سنة وتذكرها الرجل كما لو أنها تحدث الآن. بقدر ما تنفخ هذه الأحداث الصغيرة من يتلقاها وتدغدغ ذاتيته، إلا أنها تبين كم أن قلوب الناس كنز لا يموت ولا يفنى.. هذا يكفي ليجعلك قريبًا منهم، بكل تواضع.. لا أدري لماذا ذكرني ذلك كله بفلسطين التي تتعرض اليوم لأكبر صفقة تدمير منظم، وأنا أعبر شوارع القدس العتيقة، ونابلس، ورام الله،، وبيت لحم، الخليل، والناصرة، وطولكرم.. ثم مشينا أنا وزينب، تحت أضواء المدينة، على مسار طريق الترام حتى وصلنا إلى فندق ماتيناز (اليوم الرويال) وأشرت إلى المكان، عند المخرج الأنيق للفندق، الذي اغتيلت فيه (في الرواية)، فجر الاستقلال، في 5 جويلييه 1962، أنجلينا ومدير الفندق فرديناند مارتينيز من طرف غارسيا الذي انتمى للمنظمة العسكرية السرية التي رفضت الاستقلال، والزاوية التي قتل فيها خمنيث، صديق خوسي أورانو، غارسيا، قبل أن يؤخذ إلى مكان غير معلوم.. كنت أستغرب من حين لآخر وأنا أشرح لزينب عن الوقائع والأحداث والشخصيات في الرواية، وكأنها حقيقية، بينما جزء كبير منها كان من صلب التخييل الروائي.. أليست الرواية جنون عصرنا، أو غطاءنا لقول حقيقتنا الخفية؟ ونحن عائدان إلى الفندق، توقفت قليلاً عند الكنيس اليهودي القديم الذي أصبح اليوم مسجدًا يحمل اسم يهودي اعتنق الإسلام، أشرح لزينب المكان الذي قتلت فيه الفنانة نور التي رسمت الاستوكادا (الضربة القاتلة للثور) الأخيرة، لخوسي أورانو، وهي تركض لحضور آخر منازلة له، لكن القدر شاء شيئًا آخر، وإذا بسيارة تتوقف عند قدمينا، ينزل منها شاب اسمراني، جميل وهو يقول: رأيتك أستاذ واسيني، فلم أستطع ألا أنزل.. لكما في قلوبنا حب كبير.. وتحدثنا عن وهران الليلية الأنيقة والكتب ومفعول الروايات في الناس.. ثم واصلنا جولتنا في مدينة كبيرة وعاشقة.