جدَّة عروس البحر الأحمر، يزخر وسطها بمبانٍ تراثيَّة شاهقة ذات واجهات خشبيّة بتقسيمات وفتحات بديعة التصميم والزخرفة، تعمل على تلطيف جوِّ المنزل، وتكييف الهواء فيه وتوزيعه داخل البيت. ويمكن للجالس من خلالها متابعة حركة الزقاق من مارَّة وباعة. جدَّة اليوم تُجدِّد ماضيها وتستعيد حيويَّتها ونشاطها بعد سباتٍ طويل كاد يقضي على بيوتها الأثريَّة الشاهدة على ماضيها العريق ومكانة ساكنيها الأوائل؛ أكابر أهل جدَّة عِلمًا وثروةً وجاهًا. وقد هجر أحفادهم بيوت آبائهم وأجدادهم القديمة، وانتقلوا شمالًا على جانبي طريق المدينة المنوَّرة، وغربًا بالقرب من شواطئ البحر، منذ أن أزيل سور المدينة الذي كان يحمي جدَّة من هجمات البرتغاليِّين، ومن زوَّار الليل الغرباء الذين امتهنوا السرقة، مفضِّلين الإقامة في مساكن غربيَّة التصميم والتنفيذ، تعتمد في تلطيف درجات الحرارة والرطوبة داخلها على أجهزة التكييف الكهربائيَّة. وهكذا أهملوا صيانة بيوتهم القديمة وسط جدَّة التي كان لتصميمها ومواد بنائها ما يقيهم من الحرِّ والرطوبة. ومع الوقت، إمَّا لحريق نشب أو تقادم العمر، تداعى بعضها وسقط. اليوم، تنقل لنا وسائل التواصل الاجتماعي خبرًا مفرحًا مفاده أنَّ بيت باعشن التراثي في المنطقة المركزيَّة قد أُعيدت صيانته وتأهيله ليكون مقهى «ليالٍ تاريخيَّة»، تقدَّم فيه وجبات خفيفة وحلويات ومشروبات بأنواعها، داخل جلسات مكيَّفة وأخرى مفتوحة. وهذا -في تقديري- بداية عودة الروح للعروس التي ما تزال متربَّعة على عرشها، مرحِّبة بضيوف الرحمن وهم في طريقهم إلى المدينتين المقدَّستين؛ مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرةً، ومستقبلة في مينائها البحري بضائع المستوردين الآتية من بلدان العالم كافَّة؛ لتلبية احتياجات أسواق المملكة وقاصديها من ضيوف الرحمن والزوَّار. الأمل معقود بعون الله على قيام مُلَّاك البيوت التراثيَّة الأُخرى، وربَّما بمساعدة الجهات المختصَّة من بلديَّة وسياحيَّة وغرف تجاريَّة وصناعيَّة لصيانتها وتأهيلها فندقيًّا ومراكز تسوُّق، تجذب السائح إليها، ليتمتَّع بالإقامة في أقدم مدينة على ساحل البحر الأحمر، يعود تاريخها إلى ما كان عليه قبل الإسلام وأثناءه، خاصَّة في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه- لمَّا اتَّخذها ميناءً لمكَّة المكرَّمة في عام 26 هجريَّة، الموافق عام 647 ميلاديَّة. السائح الذي يعشق التاريخ، ويهوى التعرُّف إلى معالم جدَّة الأثريَّة والتراثيَّة، سيجد ضالَته بالقرب منه، حيث آثار سور جدَّة وحاراتها التاريخيَّة: حارة المظلوم، وحارة الشام، وحارة اليمن، وحارة البحر، والمساجد التاريخيَّة، وأشهرها مسجد عثمان بن عفَّان، ومسجد الشافعي، ومسجد الباشا، ومسجد عكاش، ومسجد المعمار، وجامع الحنفي، إضافة إلى الأسواق التاريخيَّة. وقد سبق -لمكانة هذه المواقع- أن أدرجت يوم 21 يونيو من عام 2014 ضمن مواقع التراث العالمية. وطالما أننا في محفل التاريخ والتراث، جميل أن يكون مقطع أغنية: «إلَّا أديمك ما يفيدك». وأن أنهي المقال بالمثل الشعبي: «قديمك نديمك ولو الجديد أغناك».