قال الملك فهد حفظه الله في حديث لجريدة السياسة الكويتية في 25/9/1406ه: الدول العربية تستطيع أن تفعل الكثير من أجل أن تبقى على مكانتها وثقلها على مختلف الأصعدة في موازين القوى، وأن تكون محل تقدير واحترام العالم أجمع، وهذا الأمر بطبيعة الحال لابد له من جهود مضنية مخلصة ومتواصلة من الجميع، ونحن نثق في كل القيادات العربية وفي إخلاصها وحسن نواياها، ومع ذلك كما هو ملاحظ هناك تشرذم، ولعل مرد هذا الواقع المؤسف هو تعدد الاجتهادات التي يفترض أن تصب في قناة واحدة ذات أهمية وفاعلية بدلاً من أن تصب تلك الاجتهادات في قنوات متعددة تأخذ أشكالا من الفرقة وانتهاج المواقف التي تتجافى ووحدة الكلمة واتحاد الصف، لذلك أوصي ونفسي وزملائي أن نبذل جهودا أكبر، وأن نكون متعاونين لأداء رسالتنا على خير وجه بما يحقق آمالنا وتطلعات شعوبنا وأوطاننا، ولنجعل مخافة الله نصب أعيننا، فهناك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وستكون مسؤولياتنا أمام الله عظيمة ولنحذر ذلك اليوم . هذه الكلمة المضيئة في مسيرة الأمة العربية وجامعتها تجعلنا نعود الى الماضي قليلا وبالتحديد الى 5/11/1914م حيث أقحم العرب على الدخول في الحرب العالمية الأولى عندما قررت تركيا الدخول فيها الى جانب ألمانيا، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وهزمت ألمانيا وحلفاؤها تعرض العرب لثلاث قوى ذات نوايا وأهداف: الثورة العربية الكبرى، الاستعمار الأوروبي، الصهيونية العالمية. ثم نشبت أيضا الحرب العالمية الثانية، وحدثت تطورات ووعود كاذبة أطلقتها القوى الاستعمارية من أجل تحقيق مصالحها على حساب مصلحة العرب فأدرك العرب الناصحون هذه التحديات التي تهدد وجودهم وكيانهم وسط حلكة الظلام التي كانت تسود الساحة العربية آنذاك، ومن أولئك الملك عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية الذي حرص على وحدة الأمة من خلال دعوته الى توحيد الكلمة عن طريقتين: 1 أرسل الملك عبدالعزيز رحمه الله الى الوالي العثماني في عام 1914م كتابا يطلب فيه عقد قمة عربية، تجمع كلمة العرب أمام القوى الأخرى، قال فيه: إني أرى أن تدعو رؤساء العرب كلهم، كبيرهم وصغيرهم الى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للحكومة العثمانية لتكون لهم حرية المذاكرة . 2 عقد الملك عبدالعزيز رحمه الله معاهدات صداقة وإخوة مع البلدان العربية، مثل معاهدة الصداقة الإسلامية والإخاء مع اليمن عام 1355ه، ومع العراق عام 1356ه. وكانت هذه المعاهدات نواة إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية تحرص على مصلحتهم أمام الانقسامات والتحديات العالمية، وشكلت لجنة تحضيرية عرفت باسم اللجنة الفرعية السياسية التي اجتمعت بالإسكندرية، وفي الجلسة الثالثة التي عقدت يوم الأحد أول أكتوبر تحدث رئيس وفد المملكة العربية السعودية الشيخ يوسف ياسين قائلا: قدمت اليكم من موطن العروبة وعربتها، من منشأها ومنبتها من الموطن الذي انبثق منه نور الأمة العربية، ذلك النور الوهاج الذي شع ضياؤه قبل ألف وثلاثمائة سنة ونصف، ولولاه لم يكن في الكون أمة عربية نفاخر بالانتساب إليها، ونسعى اليوم لجمع كلمتها,,. إن أمتنا أمة واحدة، وما كان اجتماعنا هذا إلا لإعادة عهد من الإخاء والتعاون شعرنا كلنا بالحاجة اليه لما يجمعنا من جوامع ويربطنا من أواصر، ووحدة في التاريخ، ووحدة في البيان، ووحدة في المصالح والاعتزاز بسلف أبقى من مآثرنا ما أبقى، وحضارة يفنى الدهر ولا تفنى . وعقدت الجلسة الختامية يوم السبت 7 أكتوبر وأقرت اللجنة فيها بروتوكول الإسكندرية الذي كان حجر الأساس لتأسيس جامعة الدول العربية الذي تم في 22 مارس 1945م ووقّع على ميثاقه في 10/3/1945م، ودخل حيز التنفيذ في 20/5/1945م وجاء في صدر الميثاق تثبيتا للعلاقات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين الدول العربية، وحرصا على دعم هذه الروابط وتوطيدها على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها وتوجيها لجهودها الى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة وصلاح أحوالها وتأمين مستقبلها وتحقيق أمانيها وآمالها، واستجابة للرأي العربي العام في جميع الأقطار العربية,,, ، ووقفت بشموخ أمام صهيونية اسرائيل عام 1948م من أجل قضية العرب الكبرى فلسطين ثم مرت بمراحل مد وجزر بين أعضائها نتيجة لضعف في ميثاقها، ومن ذلك: اختلفوا عام 1950م حول ضم الملك عبدالله للضفة الغربية الفلسطينية الى المملكة الأردنية، واختلفوا أيضا عام 1955م حول حلف بغداد لأنه يجر المنطقة العربية الى الصراعات العسكرية بين الكتلتين الشرقية والغربية ويلحق ضررا بمصالح الجامعة ويتناقض مع سياستها ثم تضامنوا مع مصر إبان العدوان الثلاثي عليها عام 1956م ثم اختلفوا في الستينات حول كثير من القضايا مثل عودة مشروعات الارتباط الغربية في مشروع ايزنهاور عام 1957م، والخلاف بين الجمهورية العربية المتحدةوالعراق اعتبارا من 1959م، ووقفوا أيضا أمام العراق في عام 1961م في محاولته ضم الكويت، والصدام المسلح بين قوى الثورة العربية والقوى المحافظة حول الثورة اليمنية التي انفجرت عام 1962م والصدام المسلح بين الجزائر والمغرب عام 1963م، والصدام بين شطري اليمن في أوقات متفرقة، ووقفوا أيضا أمام إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن عام 1963م، وبعدها عاد الصراع من جديد الى أن وقعت كارثة حزيران عام 1967م، واشتد التضامن العربي عام 1973م، ثم بدأ الصراع المصري العربي عام 1987م بسبب كامب ديفيد وزيارة الرئيس المصري لإسرائيل، وأثناء ذلك اشتد أيضا الصراع العراقي السوري بسبب موقف سوريا من الحرب العراقية الإيرانية، والصدام المصري الليبي عام 1977م، ثم تأتي قمة عام 1987م ليفتح العرب صفحة جديدة، ولم تكد أن تقترب من سنتها الثالثة حتى لطخها الطاغية صدام حسين بدماء عربية في غزوه الكويت عام 1990م معارضا بصراحة مبادىء وأهداف جامعة الدول العربية ومصلحة العرب العليا, مع أن جريمته في شق الصف العربي أعظم بكثير من زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى اسرائيل تلك القضية التي تبناها العراق لإخراج مصر من جامعة الدول العربية ونقل مقرها الى تونس. وأسلوب التخدير الذي تعالج الجامعة العربية من خلاله النزاع العربي يحملها مسؤولية ما جرى، وما يجري فالخلافات الحدودية وغيرها بين أعضاء الجامعة قنابل قابلة للانفجار في أي وقت، فمطالبة العراق بالكويت ترجع إلى عام 1961م، والنزاع الأردنيالفلسطيني عام 1970م يرجع الى قرار الملك عبدالله عام 1950 بضم الضفة الغربية الى مملكته، وقضية حلايب بين مصر والسودان موجودة منذ الاستقلال، والنزاع الجزائري المغربي موجود أيضا منذ استقلال الجزائر، وغفلت أيضا عن خطر التجمعات الإقليمية، ولهذا انفجر مجلس التعاون العربي مصر، العراق، اليمن، الأردن بعد غزو العراق الكويت، وتعثر الاتحاد المغاربي المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، موريتانيا بسبب تسوية مشكلة الصحراء العربية، والموقف من غزو الكويت، ومسألة لوكيربي، ولو قارنت جامعة الدول العربية مسيرتها التي بدأت عام 1945م بمسيرة الاتحاد الأوروبي التي بدأت 1957م بجامع التنظيم الاقليمي، لأدركت ان هناك خللا يجب أن يعاد النظر فيه من خلال زرع الثقة بين العرب من جديد، وبدعم من ميثاق قوى لا يخضع لوجهات النظر التي عرضت مصلحة الكيان العربي للمساومة. ولماذا لا تستطيع أن تفعل ذلك؟ وبخاصة اذا عرفنا ان خمسا من الدول الأعضاء في الجامعة العربية شاركت في وضع ميثاق هيئة الأممالمتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي عقد في 25/4/1945م، وأهم قضية يجب أن تقف عندها مسألة تسوية النزاع العربي بالطرق السليمة، من خلال مشروعيتها المستمدة من ميثاق الأممالمتحدة الذي تطرق الى الاتفاقات الإقليمية في المادة 33 ، وفي الفصل الثامن المؤلف من ثلاث مواد 52 ، 53 ، 54 ، وأكدت أن المنظمات الإقليمية وسيلة من وسائل حل النزاعات بين الدول تحت إشراف مجلس الأمن. تقول الفقرة 1 من المادة 52 : ليس في هذا الميثاق ما يمنع وجود اتفاقات أو منظمات اقليمية لتعالج من الأمور المتعلقة بحفظ السلام والأمن الدوليين ما يكون ملائما للعمل الاقليمي، شريطة أن تكون هذه الاتفاقات أو المنظمات ونشاطاتها منسجمة ومقاصد الأممالمتحدة ومبادئها. وتلزم الفقرة 2 من المادة 52 الأعضاء في المنظمة الإقليمية الذين ينتمون الى عضوية الأممالمتحدة بأن يبذلوا قصارى جهدهم لحل المنازعات عن طريق المنظمة قبل أن تحال الى مجلس الأمن, مع أن ميثاق الأممالمتحدة أجاز رفع النزاع الى مجلس الأمن دون عرضه إقليميا بموجب المادة 53 ، والفقرة 1 من المادة 33 . ويحق لمجلس الأمن أن يتدخل في النزاع بموجب المادتين 34 ، 36 متخذا ما يراه، متجاوزا كل المنظمات الاقليمية، وله الحق أيضا أن يستخدمها في مسألة الاجراءات القمعية بموجب الفقرة 1 من المادة 53 ، وله الحق أن يعرف ما تقوم به في سبيل توطيد الأمن الدولي بموجب المادة 54 ، ويجب على المنظمة الإقليمية أن تأخذ موافقة مجلس الأمن قبل شروعها في أي اجراء دفاعي بموجب الفقرة 1 من المادة 53 وهذا يتعارض نصا مع المادة 51 التي تنص على الحق في الدفاع عن النفس بغير إذن مسبق من مجلس الأمن. والدليل على أهمية تسوية النزاع سلميا أن ميثاق الأممالمتحدة نص في مادته الأولى على ان المقصد الأول هو حفظ السلام والأمن الدوليين عن طريق اتباع وسائل عديدة أهمها تذرع الدول بالطرق السليمة لتسوية منازعاتها وإعمال مبادىء العدل والقانون الدولي. ونصت الفقرة 3 من المادة 2 على ان يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر. والفقرة 4 من المادة 2 أضافت امتناع الأعضاء جميعا من استخدام القوة أو التهديد بها في علاقاتهم المتبادلة ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأممالمتحدة المنصوص عليها في الديباجة وفي المادة الأولى من الميثاق. كما أفرد الميثاق الفصل السادس للحديث عن حل المنازعات سلميا في حين أن ميثاق جامعة الدول العربية لم يعالج هذه القضية المهمة كما عالجها ميثاق الأممالمتحدة. وعند النظر الى اسلوب الجامعة في تحقيق التسوية السلمية نجد انها تقر وسيلتين، هما: الوساطة عن طريق مجلس وزراء الخارجية والتحكيم بموجب الفقرة 2 من المادة 23 والمادة 24 ، وعدم اللجوء الى المنظمات الأخرى لحل النزاع قبل الجامعة في حين ان ميثاق الأممالمتحدة حث الدول الأعضاء على تسوية المنازعات عن طريق الوسائل الآتية: الوساطة، التحكيم، التحقيق، التوفيق، التسوية القضائية، المفاوضة، اللجوء الى المنظمات الدولية، وسائل أخرى يتفق عليها الطرفان المتنازعان، كما ان الفقرة أ من المادة 37 أشارت الى عرض النزاع على مجلس الأمن إذا لم تصل الأطراف المتنازعة الى حل عن طريق المادة 33 وقصر حل النزاع على مجلس وزراء الخارجية فيه قيود كبيرة أمام التسوية في حين ان ميثاق الأممالمتحدة أقر جهود الوساطة التي تبذل من أي جهة بشرط أن يبلغ مجلس الأمن بالتفاصيل. والحل الذي يقدمه مجلس الجامعة غير ملزم لأطراف النزاع من جهة اعفاء المخالفين من تنفيذ القرارات المتخذة بالأغلبية كما في الفقرة 2 من المادة 38 : القرار الذي يتخذ بما دون الإجماع غير ملزم للدولة المعترضة صراحة عليه . ويجب أن تعيدالنظر في هذه القضية التي وقفت حالا أمام جهود الجامعة، فالتصويت على القرار لا يلزم منه الاجماع، ويكتفي بالأغلبية لنفاذه كما هو معمول به في أكثر المنظمات الدولية والاقليمية الأخرى. ولو تعرضت دولة من الأعضاء لخطر يهدد الكيان العربي في دولة أخرى، وجرى التصويت كما حصل في غزو العراق للكويت عام 1990م، وكانت الأغلبية، فهل القرار ملزم لتلك الدول التي عارضت بموجب الفقرة 7 من المادة 2 : تلتزم الدول الأعضاء بعدم انتهاج أية سياسة تتعارض مع أهداف الجامعة ومبادئها أو تضر بالمصلحة العربية المشتركة , والمواد التي تنص على احترام الشرعية والسيادة, أو غير ملزم بموجب الفقرة 2 من المادة 38 بحجة انها لم تصوت لصالح القرار. وعندما تتعرض دولة من الأعضاء لاعتداء مسلح فالمادة 27 تقول: تعتبر الدول الأعضاء أي اعتداء مسلح على احداها أو على بعضها أو التهديد به اعتداء عليها جميعا، وفي هذه الحالة ينعقد مجلس وزراء الخارجية لدراسة الموقف واتخاذ التدابير السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يراها. ونسي الميثاق أن يعالج قضية تعرض دولة عربية لغزو واجتياح من دولة عربية أخرى، وما تدابير القمع التي تتخذها جامعة الدول العربية في مثل هذه الحالة؟ وماذا تنفع القرارات المعتمدة على التصويت، لأنه لا يكون حينئذ بالاجماع وبالتالي لا يلزم من اعترض عليه أو امتنع عن التصويت. في حين أن ميثاق الأممالمتحدة خصص الفصل السابع لاتخاذ تدابير قمعية في هذه الحالة التي تهدد الأمن والسلم الدوليين. وأما التحكيم في ميثاق الجامعة فلابد له من الاجماع أيضا وإلا لما استطاع مؤتمر القمة أو مجلس وزراء الخارجية أن يحيل النزاع الى التحكيم، فهو اختياري بموجب الفقرة 1 من المادة 21 من مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية التي أقرت في البيان الختامي لمؤتمر القمة العربية المنعقدة بجمهورية مصر العربية عام 1996م. وليس باستطاعة أية دولة من طرف النزاع أن ترغم الأخرى للمثول أمام هيئة التحكيم، وإذا حكمت المحكمة لطرف وامتنع الآخر من تنفيذ الحكم فالفقرة 4 من المادة 42 تقول: اذا امتنع أحدالأطراف عن تنفيذ الحكم، فللطرف الآخر أن يلجأ عن طريق الأمين العام للجامعة الى مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية لاتخاذ التدابير الكفيلة بتدبيره وحينئذ تقف قضية الاجماع في اتخاذ القرار حائرا أمام التنفيذ. وأخيرا أذكّر هذه الأمة بكلمات الملك فهد حفظه الله التي نشرت في حديث لجريدة السياسة الكويتية في 25/9/1406ه: أتعمق في مشاكلنا العربية فأجد انها ليست مشاكل يصعب حلها,, المهم ان تصفو النوايا أما إذا كانت هذه المشاكل هي انعكاس لما في نفوس القادة بينهم وبين بعض سواء سلبا أو إيجابا، فإنها من دون أن تخلص هذه النفوس فإنها فعلا تصبح مشاكل، ان نظام الجامعة العربية الحالي قد مضى عليه وقت طويل، ويحتاج الى تعديل ينسجم مع المتغيرات حتى يسير العمل العربي بلا عقبات, ان مشاكل البيت العربي ليست مشاكل من القاعدة ولكنها مشاكل من القمة، ولكنا نتطلع الى اليوم الذي يعود فيه الود بين جميع الدول العربية، فالوطن العربي مليء بالإمكانات، ولا يحتاج إلا إلى حسن النوايا بين قادته , والله من وراء القصد. * كلية اللغة العربية جامعة الإمام