قد يتساءل أحدُنا عن ذلك الطفل الذي وُلِدَ مشوهاً بعجب وسؤال عن السبب، ومنا من يستنكر أن يُعذب بريء، وكذلك أن يُصاب أحد بمرض عضال، وهنا نشير إلى السائل ومن هو، وبكل القداسة والتقديس من أدى إلى ذلك ومن بيده الجواب. إن حجم القدرة والفهم والإدراك لدى السائل يحدها ما يفهمه من حقائق مقيدة بعجزه وقصوره، وذلك من واقع سؤاله، فقصور العقل أمام العالم الحكيم المطلق والشامل علمه لا يبرر إنكار حقائق قد لا ندرك أبعادها وأسبابها ومآلها. إنها رحلة تنتهي إلى العجز فينا وليس أمامنا إلا أن نسلّم بالأمر ونقبل دون أن يتعطل العقل، ونحرص على حيويته في حدود ما أذن الله بفهمه، وفي التسليم والقبول والرضا أفضل حوار مع القصور والعجز لدينا، وإذا قارنا ذلك كله بعلم الله الواسع العادل، فإننا نقارن بين علم مطلق وجهل مطبق وفي القبول والرضا إيمان وعبادة للخالق عزَّ وجلَّ، وهو كذلك إنصاف لعقولنا وعدل معها ومع الحقائق التي نحن بصددها، وعلى مستوى ممارسة الحياة، فإن الذي لا يقود عربته، فالسبب أنه لم يتدرب على فن القيادة، وهذا لا يعني إنكاراً للعربة، أو القدرة على قيادتها، وكذلك أننا لا نعرف أن نؤدي كل ما تؤديه النملة ومع ذلك لا يجوز إنكارها. هذه الأمثلة تؤكد على الفارق الواضح الجلي بين عجز العقل على الإدراك، وبين الرفض لما يعجز عن فهمه لحقيقة ما، فالمولود المشوّه إذا لم نحط بالأسباب المؤدية إلى ذلك، أو لعجز فينا أراده الله من خلال محدودية العقل لدينا، والمحصلة أن نسلم بعجز الفهم ومحدودية العقل لدينا، ومن فادح الخطأ أن ننكر حقيقة لا نفهمها ولا نحيط بأبعادها. إننا نطرح أسئلة كثيرة ويستعصي الجواب ولا يمنحنا سبيلاً أو مبرراً لإنكارها، فالوعي محدود بالشيء الذي يفهمه الإنسان، أما ما قبله أو بعده فقد يكون مما حُجب عنا فهمه، والمثال على ذلك حقيقة الموت، نتفق عليها كحقيقة مقدّرة ولا نملك من سبيل لإنكارها، أو التعديل أو التبديل فيها وأي أمر يتجاوز ذلك فهو ظلم للنفس وللكون وتجاوز لقدر الله فينا، فلسنا بقادرين على فهم حقيقة ما حجب الله عنا من إمكانية الإحاطة بها، ولكن لم يحجب عنا قدرة القبول والرضا، فنحن في غنى عن التأكيد أو قول المزيد في هذا المجال. إن علم الله وسع كل شيء، وعلم الإنسان وسعه ما أذن به الحق عزَّ وجلَّ، حيث قال في كتابه الكريم: ?الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?.. آل عمران 190-191. إنها آيات لأولي الألباب ووسيلة للتفكر، وهكذا فإن المتاح لنا فهم لشيء وعجز مطلق في إدراك كل شيء، وكما قلنا الشيء الذي لا نفهم أبعاده وهو حقيقة ثابتة لا نلغي وجودها وأثرها وتأثيرها فيما خلق الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يأخذنا العجز لاعتبار الحقيقة الربانية التي لم يأذن لنا سبحانه وتعالى بإدراكها أن نعمد إلى إلغائها أو إنكارها، فلقد قال مفكر مسلم ما معناه: لقد تأملت حالاً عجيبة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد بنى هذه الأجسام بمنتهى الحكمة، وهذا يدل على كمال قدرة الله فيما صنع، وما تضمنه الجسد من ألغاز في مجموعها دليل على كمال قدرة الله، فما صنع الله من ألغاز في هذا الجسد دليل على كمال قدرته حيث يدل المصنوع على صفات من صنعَ. كما أخذ بي العجب أن يعود الله سبحانه وتعالى فيهدم ما صنع (بالموت)، فالأمر يثير الحيرة لمدى، ومن ثم القبول والإيمان والتعبد. ويستمر هذا المفكر في قوله: لقد قارنت هذا بأن تلك الأجساد ستعاد يوم القيامة، وأنها لم تخلق إلا لتجوز في مجال المعرفة فاطمأنت بذلك العقول. إن الكثير من الحقائق التي قدّرها الله لم يشأ لعقولنا إدراك الأبعاد فيها وما يحيط بها، فنحن أمام علمه وحكمته لا نملك إلا القبول والتسليم والإذعان، والدليل على ذلك ما سبق الإشارة إليه حول الموت، حيث لا دخل لمشيئة الإنسان ليعدل أو يبدل أو يقدم ويؤخر ما شاء الله وقدّر. إنها قدرة ونفاذ القدرة أمام قصور وعجز وجهل وظلم الإنسان لا يصل بنا إلى معنى. لقد أنعم الله علينا بنعمة العقل وبطاقة الفهم رحمة من الله لنتدبر ما نعلم، وما نسيّر به حياتنا، وأن نتفكر في آيات الله وملكوته، فالعجز فينا يلازم كثيراً من الأسئلة ويحد من المعرفة التي حجبها الله عنا، والمؤمن من يرضى ويقبل بذلك. إن ما حُجب عنا والقبول والرضا به مساحة للإيمان والعبادة، وهذا من رحمة الله بنا، فعجز العقل ومحدوديته وضيق أفقه يدفعنا إلى التفكر والبحث فيما ندركه من حقائق، وما نحن بجاهلين فيه، فهذا الجهل يقترب بنا منه دون أن يدفعنا إلى إلغاء أو إنكار، كما يدعو إلى التفكر والإيمان به كغيب شاء القدر له ولنا ذلك، وقد نجد في محاولة التفكر وعمق التأمل كثيراً من العائد الذي به يرقى مستوى الإيمان لدينا فيسمو بنا إلى القمة وفق المنهاج الذي أراده الله لنا. فالرفض أو الإنكار قد يكون مدخلاً إلى الكفر يسهل بدؤه، إلا أن الوقت وما يتسع منه هلاك، وفي ذلك امتحان لإيماننا بالله ورضانا بما شاء وقدّر، وفيما شاء وقدّر حقيقة لا ينفع معها الرفض والإنكار، فهي مناطة بالخالق سبحانه، وما نتمناه أن لا ينحرف بنا التفكير إلى هاوية الكفر من خلال رفض أو إنكار حقائقه. قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).. وقال تعالى: (........ وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ).