وهذا الشهر الكريم هو ميدان التسابق في الأعمال الصالحة، فالمسلم الجاد يغتنم مدة بقائه في هذه الحياة الدنيا قبل فواتها، ويسارع إلى الطاعة؛ لأنه في أشرف أوقاتها. * هذه أيام رمضان تنقضي ولياليه الشريفة تمضي.. وكم من مستقبل له لم يستكمله، وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه، ولم يبق فيه إلا أشرف لياليه وهي العشر الأواخر، أعظم أيامه فضلاً وأشرفها قدراً، وأكثرها أجراً، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظمها أيما تعظيم، كان يهجر الفراش فيها، ويوقظ أهله، ويحث أصحابه على اغتنامها ويعتكف فيها. * تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) رواه مسلم. وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله. * إنها عشر فضلت على غيرها وخصت بإنزال القرآن فيها، وشُرفت بليلة القدر فيها، شهد لها الحق جل جلاله بأنها خير من ألف شهر، وبأنها مباركة، وبأنها يُفرق فيها كل أمر حكيم، فالعاقل يقدم لنفسه عملاً صالحاً كما قال الله تعالى: (وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) والعاقل يمهد لنفسه بالعمل الصالح كما قال الله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. فمن قدم لنفسه في هذه الأيام وعَمَرَ آخرته بصالح الأعمال، سعد وفاز بمنازلها وغرفاتها ونعيمها.. فإذا وفَّق الله العبد لعمل الصالحات أحبه الله، وإذا أحب الله عبداً صبّ عليه الإحسان صباً، وأجزل له العطاء جزلاً، وأنعم عليه بالنِّعم الظاهرة والباطنة. * الأعمال الصالحة في رمضان ميدان واسع، وكل يوفق للعمل الذي يسره الله له، بيد أن أشرف عمل يتقرب به المسلم إلى ربه في هذه الأيام تلاوة القرآن العظيم، فحري بالصائم أن تكون عنايته بالقرآن مضاعفة في هذا الشهر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الأجر الجزيل والثواب العظيم الإقبال على تلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته واتباع أوامره، والوقوف عند معانيه وهداياته، فمن تدبر الآيات عند التلاوة دعاه ذلك إلى العلم، ومن اتبع ما جاء في القرآن أورثه ذلك العمل بالقرآن، فما أحوج الإنسان إلى تلاوة القرآن وتدبر آياته ليستمد من ذلك سكينة النفس، وهدوء البال، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب؛ ففيه الهداية والشفاء ودواء القلوب، وجلاء الهموم والغموم (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) *هذه الأيام هي أيام الجد والاجتهاد وكثرة التهجد والقيام، فإن ذلك قربة تبعث عند الله مقاماً محموداً، وسبب لمغفرة الذنوب ومحو الخطايا. وفي الحديث عند مسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). * في هذه العشر مَنّ الله على هذه الأمة بليلة القدر، خصّها الله بعظيم الثواب وجزيل العطاء، جعلها الله خيراً من ألف شهر، ولم يقل إنها تساوي ألف شهر، بل قال جلّ وتقدس: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ). وهذا يدل على أن العبادة في هذه الليلة يعظم ثوابها ويتضاعف أجرها، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى تحريها فقال في الحديث المتفق على صحته: (التمسوها في العشر الأواخر في الوتر). فمن أحيا اليالي العشر بالعبادة والعمل الصالح فقد وفق للأجر والثواب.. وفي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه). * سمّاها الله ليلة القدر، لعظم قدرها وجلالة مكانها عند الله، ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها، وقيل سُمّيت ليلة القدر لأن المقادير تقدر وتكتب فيها. * فيستحب للعبد المسلم الإكثار من الدعاء والعبادة والأعمال الصالحة في ليالي العشر، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها حين قالت: أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني) أخرجه الترمذي وابن ماجة. * وهذا دعاء عظيم جامع شامل لكل خير؛ لأن الله هو العفو، وهو سبحانه المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم، وهو جلّ وعزّ يحب العفو، ويحب أن يعفو عن عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته، فالدعاء بالعفو والعافية له فضل عظيم وشرف كبير، ولم يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمين عائشة إلى هذا الدعاء إلا لما فيه الخير والنفع.. فتأمل!!. * الدعاء في هذه الأيام له شأن عظيم، فالله يحب المتضرعين، ويحب الملحين في الدعاء، فهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)وهو سبحانه معطي السائلين، ومجيب الداعين، ولا تغيض خزائنه، ولا ينفد عطاؤه (وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا). *فيا أيها الراجي عفو الله ومغفرته قَدِّر فضل هذه الأيام والليالي، وتعرض لفضل الله فيها، وقدم لنفسك خيراً وتدراك ما بقي من هذا الشهر بصالح العمل، والعزيمة الصادقة والتوبة الخالصة، وبذل المعروف والإحسان، والقيام لربك خاشعاً خاضعاً، ولبره وخيراته راجياً، ولعفوه ومغفرته مؤملاً، ومن عذابه وعقابه مستجيراً مستعيذاً. فقدموا لأنفسكم خيرا.. وتضرعوا إليه صدقاً.. وتوبوا إليه حقاً.. والله الموفق والمعين.