إنَّ القلب ليحزن، وإنَّ العين لتدمع، وإنَّا على فراقك ياشيخنا لمحزونون لقد فُجِعتُ - كما فُجِع غيري من طلبة العلم - بوفاة شيخنا الأستاذ الدكتور محمد الهادي أبو الأجفان - رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته -، وهو عَلَمٌ من أعلام تونس الخضراء، كما هو جَبَلٌ من جِبال العلم في جامعة أمّ القرى بمكة المكرمة،(إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون)، لله ما أخذ، وله ما أعطى وكلّ شيء عنده بأجلٍ مسمَّى. لقد رَحَل عن هذه الدّار فجر الثلاثاء، الثامن عشر من رمضان، فنسأل الله أنْ يجعله من عتقائه من النار، وأنْ يُعَوِّضه عن كدر هذه الدار بجنَّاتٍ ونَهَر في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر. لقد شَرُفْتُ بالدراسة على الشيخ قرابة ثمانية أشهر، وكنتُ حين يتحدَّث لا أملك إلاّ أنْ أُسَمِّر عَيْنَيّ في النظر إلى الشيخ، وهو يتكلَّم بتؤدة، ولغةٍ عربية فصحى، بكلامٍ بيِّنٍ فصيح موزون، لا يُخْرِج الكلمة إلا وقد عَلِم موقعها. وممَّا يدعو إلى التأمّل أنَّ الشيخ - رحمه الله - اعتذر عن التجديد مع الجامعة هذا العام، وكأنَّما كان على موعد مع المنيّة، وهكذا كان - رحمه الله -!! إنِّي بهذا المقال أُحَاول أنْ أُسَلِّيَ نفسي وأُعزّيها بذكر بعض الفوائد التي أفدتُها من شيخنا - رحمه الله -: * أعجبني فيه حرصُه على المعلومة، حتى وإنْ كانت من أحد أبنائه الطلاب، فإنَّ أحدَنا ربَّما ذكر معلومةً عارضة عن بعض العادات، أو بعض المواقف، أو بعض الفوائد ، فتفاجأ بالشيخ يقول لك: أعِدْ، أعِدْ، فتُعِيد، وقد وضع الشيخُ يدَه تحت ذقنِه مُنْصِتاً، لا يزيد على أنْ يقول: أيه.. أيه... أيه - باللهجة التونسية الجميلة -، استمرّ، وربَّما قال: عجيبٌ هذا، إلى أنْ تنتهي من كلامك، قِمَّةٌ في التواضع، وعُلُوٌّ في الخُلُق، وكأنَّ لسان حاله يقول : الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقُّ بها. * وممَّا أفدتُه من الشيخ - وأعجبني كثيرا - التثبُّت في النقل، والدِّقَّة في التَّعبير، فتجدُه إذا ذكر شيئاً غير متأكِّد منه قال: أظنُّ ذلك، سمعتُه ولا أدري عن صحَّته، وأحياناً يقول: أنا متأكِّد من ذلك، وإذا سألَ أحدُ الطلبة عن مسألة وذكر أنَّ فيها قولين، قال الشيخ: الذي أعرفه ومتأكِّدٌ منه أحد القولين، أمَّا الثاني فلا أعرفه، وهكذا كان ؛ ولذا فإنَّك إذا سمعتَ الفائدة منه فعضَّ عليها، فإنَّها من رجلٍ مُحقِّق. * أُحِبُّ فيه كثيرا أنَّه يُعامُلني كأحد أبنائه، فتجدُه عندما يناديني يقول لي: يا ابني، كم كنتُ أُحِبُّ هذه الكلمة التي تُشْعِرُني بالأُبوَّة العِلْميَّة الحَانِيَة، وأُفضلِّها كثيراً على لقب (الشيخ) الذي يَتَنَادَى به طلبة العلم، وربُّما يُنادِيك به أحدُ شيوخِك. * رَحِم الله شيخَنا - أبا الأجفان - وأسكنه فسيح جنَّاته ، وجزاه عنَّا خير الجزاء، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه. الدراسات العليا - جامعة أمِّ القرى