أصدق الكلمات وأبلغها أثراً تلك التي تكتب في رجل رحل عن هذه الدنيا وأصبحت ذكراه كالطيف حديث الأحباب والأصدقاء، فهي كلمات صادقة كونها أبعد ما تكون عن التزلف والتملق والبحث عن المكاسب الدنيوية، خصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بشخص فارق الدنيا وأصبح في عداد من انقطع نفعه لنفسه فضلاً عن الآخرين. أضف إلى ذلك، أنه لم يسبق لي معرفة هذا الرجل، إلا من خلال ذلك اللقاء السريع الذي جمعني بالفقيد أثناء زيارته لكلية الجبيل الصناعية بعيد أيام قليلة من تسلمه مهام عمله مديراً عاماً للهيئة الملكية بالجبيل قبل حوالي سبعة أشهر. ولكني أحسست في ذلك الاجتماع - أنا وزملائي- أننا نعرف أبا عبد العزيز منذ عشرات السنين، كان متواضعاً إلى أبعد الحدود، يستمع كثيراً، ويتحدث قليلاً، وأشهد يومها أنه أُقترح عليه أداء الصلاة مع الحضور جماعة بعد انتهاء الاجتماع، فرفض إلا الصلاة في مسجد الكلية مع الجماعة. وإذا كان الموت حقاً، والناس يتخطفهم الموت في كل لحظة وحين، فإن هناك صنفاً فريداً منهم تبقى ذكراه حية بين الناس، حياً بأخلاقه الفاضلة وسيرته العطرة وتواضعه الجم وأريحيته وطيبة نفسه، يألف ويؤلف من أول وهلة تراه، يتحدث فيأسر القلوب بحسن حديثه ودماثته، يُواسي وُينصف، فهو بحسن تعامله يكسب كل يوم ولا يخسر، يبني ولا يهدم، يُفقد إذا ذهب ويُفرح إذا قدم. يبكى عليه ويستغفر له، رجل يعتبر المنصب اختباراً له وصبراً وتصبراً.. كلا!! ولم يره يوماً عجرفة وتعالياً على الآخرين. المهندس محمد بن عبد العزيز الجويسر، رحمه الله، واحد من هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين تفخر وتعتز بسيرتهم، واحد من أولئك الذين لا خيار لمن عرفهم إلا أن يكن لهم المحبة والتقدير، كسب قلوب الجميع في بضعة أشهر من تواجده في محافظة الجبيل، حتى يخيل لك أن الكل في هذه المحافظة يعرفه تمام المعرفة منذ أمد بعيد. وقبل الجبيل كان في ينبع مديراً عاماً للهيئة الملكية هناك، حيث ترك وراءه إنجازات حافلة وسمعة عظيمة قلما تجدها في هذا العصر بين أقرانه من القياديين. تمثلت في أصدق صورة في حفل الوداع الرائع الذي أقيم له من أهالي محافظة ينبع حين غادرها إلى الشاطئ الشرقي يحمل طموح وآمال شبابنا الأوفياء لدينهم ولأمتهم ولقيادتهم. لكن الأجل كان أسرع من أي شيء آخر فقد غيَّب الموت - أبا عبد العزيز- ولكن حسن خلقه ومناقبه الحميدة تبقى حية بين محبيه وزملائه وذويه. فكم من أيد ارتفعت إلى السماء تدعو له بالمغفرة والرضوان وأن يسكنه الله فسيح جناته وأن يخلفه في حياته خيراً. اللهم فأبلغه بأخلاقه الحميدة منازل الصديقين والشهداء، اللهم وابن له عندك بيتاً في أعلى الجنة، واجعله يا كريم من ورثة جنة النعيم. اللهم واجعلنا وأهله وذويه من الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) اللهم واربط على قلوبهم واجبر مصابهم وأحسن عزاءهم. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).