أماجدُ) إنْ آنستَ منِّي جانباً بقربٍ لقد أوحشتَ بالبعد جانبا وقد عظمت فيك المصيبةُ إنها تُصَغِّرُ عندي في سواك المصائبا ستبكيك أخلاقُ المروءةِ إنها مغيبةٌ ما دمتَ عنهن غائبا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لما مات عبد الله بن أبي بكر وجدَ عليه أبو بكر وجْداً شديداً، ثم دخل علي، فقال: يا عائشة، والله لكأنما أُخِذَ بإذن (شاة من دارنا) فأُخْرِجت، فقلت: الحمد لله الذي عزمَ على رشدك، وربطَ على قلبك. قالت ثم جاء بعد ذلك، فقال: أي بنية، أتخافين أن تكونوا دفنتم عبد الله وهو حي؟ فقلت: استعذ بالله يا أبه. فقال: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أي بنية إنه ليس أحدٌ إلا وله من الشيطان لمَّةٌ. قال هذا أبو بكر رضي الله عنه وهو أبو بكر، من شدة شفقته ووجده، وحُقَّ له رضي الله عنه. ولقد والله روادتني وساوسُ مثيلة بما راود الصديق رضي الله عنه، وما كان لها أن ترد علي لولا شدة الوجد والأسى على فقيدنا البار وحبيب قلوبنا خالي: ماجد بن عبد الله المنيع الذي كنا نفرح بإشراقة وجهه، ونبتهج للقياه، ونأنس بطيب حديثه وحسن معشره. كنت لنا أُنْساً فأوحشتنا فالعيشُ من بعدك مُرُّ المذاق لقد - والله - شقَّ علينا فراقك، وصدع قناتنا، وفجع قلوبنا؛ فما أنت علينا بهين، فأنت جزء من نفوسنا، دفناه بأيدينا، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى. وحُقَّ لمن يُصاب بمثلك أن يحزنَ ويأسى، ويزهدَ بالعواقب؛ فما لذة العيش بعدك، فقد غدا الليل بعدك مقلقاً موحشاً، وأضحى النهار بعد فراقك كئيباً شاحباً، لكنا لا نقول إلا ما يرضي ربنا إقراراً، واحتساباً، ورضا. قال الله جل وعلا: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ). نأسى على فقدك حسرةً وأسفاً على فوات حظنا الدنيوي منك، فحبنا لك عظيم، وودنا لك مقيم، وإنا نعلم أنك نعم الفتى. نعم الفتى المتدين، صلاحاً وتقىً، وتألُّهاً وعبادةً وتنسكاً، ففي تُقى الله ما يأتي وما يذر. نعم الفتى ماجدٌ، فقد كان يميزه برُّه الشديد بوالديه، لدرجة أثارت إعجاب كل من كان يرى هذا البر، وكان واصلاً القرابة صغاراً وكباراً، فهو مثال البرِّ والصِّلة. نعم الفتى ماجدٌ، ما كان يريد علواً في الأرض ولا فساداً. نعم الفتى ماجدٌ، تبدل داراً غير دارنا، وجيرةً سوانا، قشتان بين جواره وجوارنا، والله - على فقده - المستعان. نعم الفتى ماجدٌ، كماء المزن نقاءً وطهراً وسلامة قلب، بعيداً عما يُزري ويَعيب. نعم الفتى ماجدٌ، الذاكر الله في كل حين، والشاكر على السراء والضراء. نعم الفتى ماجدٌ، لا يلفظ العوراء، صابراً على الشدة واللأواء، راضياً بالقضاء. نعم الفتى ماجدٌ، لم يغب عنا إلا اشتقنا إليه، ولا ضمَّنا مجلسٌ فمللنا النظر إليه. نعم الفتى ماجدٌ، من يبكه يبكي ماجداً كثير الفضائل، سهل الجانب، لين العريكة، صدوق المقالة لا يكذب. نعم الفتى ماجدٌ، جمع الرجولة والتدينَ في قَرَن. نعم الفتى ماجدٌ، وفاءً للصديق، وحفظاً لحق الأخوة والصحبة. نعم الفتى ماجدٌ، مروءةً وشهامةً، وطيبِ خلق، وحُسنِ سمتٍ، وتهلُّلَ وجه. نعم الفتى ماجدٌ، أبقى بيننا طيبَ ذكره، كباقي ضياء الشمس عند المغيب. نعم الفتى ماجدٌ، أهاج علينا فقدُه حزناً طويلاً، فلم يكن البكاء عليه ليوم ينجلي، ولم يكن وداعه نفض النعالي. أرى الناس طراً حامدين ل(ماجدٍ) وما كلهم أفضت إليه صنائعُه نعم الفتى ماجدٌ، فقد كان عفَّ الضمير، لكسب الحمد سباقٌ، وللمعروف مدخرُ. نعم الفتى ماجدٌ، يأسى لحال الأمة ويشفق عليها من أي عارض سوء، ويمارس انتماءه وولاءه بالسعي لاستصلاح أقاربه واستنقاذهم. نعم الفتى ماجدٌ، يلقى ربه طاهر الإزار، طيب السيرة، نقي السريرة. نعم الفتى ماجد فقد كان له من اسمه أوفر الحظ والنصيب، بخصاله العطرة، وخلاله الزكية. لقد ثقل قلمي عن وصف ما أجدُ من الوجد، ففي الحشا حُرقةٌ، وفي النفس حَسرةٌ، وماء العين منسكب صبيب. ولو كانت الدور تبكي فقد ميت؛ لاصطكت المسامع من بكاء الدار ونحيب الآثار عليك أيها الحبيب. ولا أفضل عند المصاب - وإن جلّ - من الصبر؛ فالدنيا تجود لتسلب، وتعطي لتأخذ، وتجمع لتشتت، وتزرع الأحزانَ في القلوب، بما تفجأ به من استرداد الموهوب. إن الصبر نعم معوَّل المؤمن، فمن صبر جرى عليه القدرُ وهو مأجورٌ، ومن جزع جرى عليه القدرُ وهو مأزور، وفي ثواب الله خلفٌ من المصيبة، وعوضٌ عن كل مَرزئة، ودَرَكٌ من كل فائت، ومن ظلَّ أسير الأحزان قتلته، وعند الله يجتمع الكرام. ولا بد من التسليم للقادر - سبحانه - ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات، فقد مضت لنا أصول نحن فروعها، فما بقاء الفرع بعد أصله؟ قال الحسن البصري رحمه الله: الخير الذي لا شر فيه الشكر مع العافية، والصبر عند المصيبة، فكم مُنعَمٍ عليه غير شاكر، ومن مُبتلى غير صابرٍ. هذا خالي فليرن أحدكم خاله..اللهم إنا نسألك لماجدَ منقلباً كريماً. اللهم اجبر مصاب أمه وزوجه، واربط على قلبيهما، وانزل عليهما الصبر والسكينة والسلوان. اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين. اللهم جازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً. اللهم أنزل على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور. اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة. اللهم عاملهُ بما أنت أهله، وأنزلهُ منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين. اللهم أنزلهُ منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. اللهم آجرنا في مصابنا، وأعظم ثوابنا، وثقل به موازيننا. والحمد لله أولاً وآخراً.