الحمد لله رب العالمين. اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين وعلى من تبعهم وسار على نهجهم بإحسان الى يوم الدين، وبعد: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذوا مناسككم) أخرجه الإمام مسلم. فنبينا صلى الله عليه وسلم حج تلك الحجة الوحيدة التي يسميها العلماء حجة الوداع وهي في العام العاشر من هجرته صلى الله عليه وسلم، ولما رجع الى المدينة بقي فيها ما يقارب ثلاثة أشهر حتى انتقل الى الرفيق الأعلى. والعلماء أخذوا من هذه الحجة أحكام الحج ما بين الأركان والواجبات والسنن. والعلماء - رحمهم الله - حينما قسموا أحكام الحج الى ركن وواجب وسنة إنما أخذوا ذلك من مقتضى النصوص الشرعية فرأوا بالنصوص الشرعية أشياء على أنها أساسيات في الحج وهي الأركان، ورأوا أشياء دون ذلك مما حصل الرخصة فيه فجعلوه واجباً وما عدا الأركان والواجبات حكموا عليه بأنه سنة، فقالوا: (إن للحج أربعة أركان): الركن الأول: نية الدخول في النسك بأن ينوي في قلبه تلبسه بالحج أو دخوله في الحج. وليست هذه النية لبس الإزار والرداء ولكنها عمل قلبي يدخل به الحاج في الحج، وان لم يلبس الإزار والرداء؛ إذ التجرد من المخيط من الواجبات لا من الأركان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، فدل على أن النية أساسية في كل عمل: أن ينوي بقلبه الدخول في الصلاة، أن ينوي أداء الزكاة، أن ينوي الدخول في الصيام، أن ينوي الدخول بالحج.. فالنية ركن من أركان الحج؛ إذ من عمل عملاً دون نية فلا اعتبار له. الركن الثاني من أركان الحج: الوقوف بعرفة؛ فالوقوف بعرفة من أركان الحج؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة من أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه)، فدل ذلك على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: (الحج عرفة)، وحدد وقته إلى طلوع فجر يوم العيد أي يوم العاشر، فمن لم يقف بعرفة فإن حجه غير صحيح، ومن طلع عليه فجر اليوم العاشر، أي يوم النحر، ولم يقف بعرفة فحجه غير صحيح، لكن من وقف بها في يوم عرفة جزءاً من النهاء أو جزءاً من الليل فقد تم حجه، فإن كان أتاها نهاراً وجب أن يبقى فيها إلى الغروب كما سيأتي، وإن لم يأتها إلا جزءاً من النهار أو من الليل أجزأه، وفي حديث عروة بن المضرس لما قال: يا رسول الله خرجت من جبل طئ والله ما مررت بجبل إلا وقفت عنده فهل لي من حج، فقال صلى الله عليه وسلم (من شهد صلاتنا هذه بجمع ووقف معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه). الركن الثالث: الطواف بالبيت، والطواف بالبيت ركن من أركان الحج بإجماع الأمة على جميع أنواع النسك مفرداً كان أو قارناً أو متمتعاً، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}فبإجماع المسلمين أن طواف الحج ركن من أركان الحج بلا إشكال، وهذا الركن يبدأ وقته من بعد منتصف ليلة النحر وليس لآخره نهاية. الركن الرابع: السعي بين الصفا والمروة.. والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج.. يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، تقول عائشة - رضي الله عنها - في سبب النزول: تحرج المسلمون ان يطوفوا بينها بعد ان كانوا في الجاهلية يطوفون بين الوثنين إساف ونائله، أحدهما على الصفا، والثاني على المروة فتحرجوا من ذلك فأنزل الله هذه الآية، ثم قالت: (ولعمر الله ما أتم الله حج من لم يطوف بهما). وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا عباد الله فإن الله كتب عليكم السعي)، فجمهور المسلمين أجمعوا على أن السعي ركن من أركان الحج، كما هو ركن من أركان العمرة، لكن هذا الركن يجوز للقارن والمفرد أن يقدماه مع طواف القدوم، ولهما تأخيره إلى يوم النحر. أما المفرد فإن سعيه إنما يكون من نصف ليلة النحر لأن عمرته مستقلة وحجه مستقل. فهذه أركان الحج.. قال العلماء: (من ترك ركناً من أركان الحج لا يتم حجه إلا أن يأتي به)، فمن ترك السعي فحجه غير صحيح الى ان يأتي بالسعي، ومن ترك طواف الإفاضة فحجه غير صحيح حتى يأتي بطواف الإفاضة، ومن فاته الوقوف بعرفة لم يصح حجه، من أدرك جزءاً من عرفة في الليل، او اليوم التاسع من ذي الحجة، او ليلة عرفة أجزأه، ومن فاته وقت الوقوف بعرفة فحجه غير صحيح. أما النية فقالوا من لم ينو أصل الحج فكل أعماله غير صحيحة لأنه لا بد من نية؛ فالنية شرط لصحة كل الأعمال. فهذه أركان الحج الأربعة. أما واجبات الحج، فكما سبق ان الواجب ما دخلته الرخصة، فمن واجبات الحج:أولاً: الإحرام من الميقات: أي إيقاع نية الإحرام بالحج عند الميقات في حق من جاء مكة خارجاً منها لحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذي الحليفة ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، ووقت عمر - رضي الله عنه - لأهل العراق ذات عرق.. فلا بد لمريد الحج ان يوقع نية الدخول في النسك عند أحد هذه المواقيت التي مر بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله وكذا كذلك حتى أهل مكة يحلون منها). أما أهل مكة فإذا أرادوا الإحرام بالحج جاز لهم الإحرام داخل مكة لأنهم سوف يجمعون بين حل وحرم ليتنقلون الى عرفة وهي في الحل، أما اذا ارادوا العمرة فلا بد أن يخرجوا الى أدنى الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالرحمن بن أبي بكر ان يعمر اخته عائشة من التنعيم، فمن ترك هذا الواجب بأن احرم بعدما تجاوز الميقات فنقول حجه صحيح ولكن عليه دم لتركه واجبا من واجبات الحج. الواجب الثاني: الوقوف بعرفة حتى تغرب الشمس.. فأصل الوقوف بها ولو لحظة ركن، لكن البقاء بها من بعد الزوال الى غروب الشمس او البقاء بها إذا جاءها في جزء من النهار الى ان تغرب عليه الشمس هذا واجب من واجبات الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة وغاب القرص، ما يدل على ان البقاء بها الى الغروب واجب من واجبات الحج، وقال صلى الله عليه وسلم لما انصرف منها بعد الغروب: (خالف هدينا هدي المشركين)، فهدي المشركين كانوا ينفرون من عرفة قبل الغروب، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينفر منها إلا بعد الغروب.. ومما يدل على أنه واجب مواظبة النبي وأصحابه عليه وملازمتهم ذلك الى بعد غروب الشمس.. هكذا سار عليه النبي وأصحابه، وامراء الحج الذين يقيمون الحج للناس من الخلفاء او من ينيبونهم الى هذا الزمن، فالناس يمتثلون هذه السنة فلا ينفرون إلا بعد غروب الشمس، ومن نفر من عرفة قبل ان تغرب الشمس فحجه صحيح لكنه عاصٍ وعليه دم. الواجب الثالث: المبيت بمزدلفة ليلة العاشر من ذي الحجة؛ فإن المبيت بمزدلفة واجب، وان كان بعض من الصحابة وهم أربعة ذهبوا الى أنه ركن، لكن الجمهور قالوا: (إنه واجب)، وقالوا يدل على وجوبه وجود الخرصة لأهل الاعذار ان ينصرفوا منه بعد نصف الليل، والنبي صلى الله عليه وسلم بات بالمزدلفة وقال: (خذوا عني مناسككم)، فالمبيت بها واجب لو تركه كان عليه دم مع الإثم. الواجب الرابع: المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، أي ليلة الحادي عشر، ليلة الثاني عشر لمن تعجل، ليلة الثالث عشر لمن تأخر، ويدل على أن المبيت بمنى واجب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس في ترك المبيت بمنى لأجل سقايته، فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بترك المبيت بمنى لأجل السقاية، ورخص لرعاة الإبل كذلك، ما يدل على ان الترخيص إنما هو من واجب إذ لو كان ركناً لما رخص فيه. الواجب الخامس من واجبات الحج: رمي الجمار في يوم النحر وأيام التشريق؛ فإن رمي الجمار واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر وقال: (خذوا عني مناسككم)، ورماها في أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال.. وتقول عائشة: (رمى النبي يوم العيد ضحى وسائر الأيام كان يرميها بعد الزوال)، فقال العلماء: إن رمي جمرة العقبة وسائر الجمار واجب وليس بركن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل رمي الجمار لإقامة ذكر الله)، فقالوا هو من الواجبات وليس من الأركان فلو تركه كان آثماً وعليه دم، وان تركه للعجز عنه كان عليه دم وسلم من الإثم. الواجب السادس: الحلق أو التقصير؛ فالحلق او التقصير واجب من واجبات الحج، قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}، والنبي صلى الله عليه وسلم حلق ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين واحدة، فقال: (رحم الله المحلقين)، فقالوا: يا رسول الله والمقصرين، قال: (رحم الله المحلقين)، قالوا يا رسول الله والمقصرين، قال في الرابعة (رحم الله المقصرين). وفي الحديث: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء). الواجب السابع: البقاء بمزدلفة الى بعد نصف الليل فمن وقف بمزدلفة ساعة وانصرف منها فنقول عليه دم، لماذا لانه لم يستكمل الزمن المطلوب وهو معظم الليل، كذلك أي ليالي منى لا بد ان يبيت بها على الأقل نصف الليل، لكن من ترك المبيت بمزدلفة لأجل زحام السيارات وعدم تمكنه من الوصول الى مكانه، او كان بأحد ليالي منى دخل الحرم للطواف فلم يتمكن من الوصول إلا بعد طلوع الفجر فهذا معذور ولا شيء عليه. الواجب الثامن: طواف الوداع، فطواف الوداع واجب على الحاج؛ لأنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يذهبون كل مذهب، يعني يخرجون من كل فج فأمر صلى الله عليه وسلم ان يكون آخر عهدهم بالبيت.. قال ابن عباس: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض والنفساء)، فطواف الوداع واجب لا يجوز الإخلال به لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به.. وطواف الوداع يكون ختام المناسك، اي بعدما يستكمل كل المناسك فيرمي آخر الجمار، إما اليوم الثاني عشر او الثالث عشر فبعده يبدأ طواف الوداع بحقه، وهذا الطواف واجب، ولو أخر طواف الإفاضة وطاف للإفاضة ونوى من ضمنه الوداع أجزأه ذلك. فمن ترك ركناً فإن حجه لا يصح حتى يأتي به إلا النية كما سبق من تركها ما انعقد الحج أصلاً، ومن ترك واجباً من واجبات الحج عليه دم، فإن كان تركها بعذر جبره الدم ولا إثم عليه ومن تركه بغير عذر أثم مع وجوب الدم عليه، أما السنن والمستحبات ففعلها خير وتكميل للمناسك، لكن لو تركها فلا شيء عليه، لو ترك الاضطباع في الطواف او ترك الهرولة بين العلمين في السعي، او لم يبت بمنى ليلة التاسع من ذي الحجة نقول هذه سنن لا يلزم بتركها دم. (*) المفتي العام للمملكة العربية السعودية رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء