الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين .. أما بعد: فإنّ في بيان فضل العلماء وما هم عليه من أخلاق طيبة وصفات حميدة دعوة للاقتداء بهم في طلب العلم النافع ونشره والدعوة إليه، وفيه أيضا دعوة لأخذ العلم النافع من أهله الذين يوثق في علمهم وتقواهم وخشيتهم لله تعالى كما قال ابن سيرين - رحمه الله تعالى -: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم). وفيه أيضاً دعوة للترحُّم عليهم والدعاء لهم جزاء ما قدموا للأُمة من نصح وإرشاد وهداية للحق ودعوة إلى الله عز وجل. أخي المسلم: إنّ الناس في أخذهم العلم النافع والعمل به على أصناف: - فمنهم من لا علم له ولا عمل فهؤلاء كالأنعام السائمة بل هم أضل. - ومنهم العابد الجاهل الذي يقتدي به الناس في جهله وهؤلاء أشبهوا النصارى ومن سلك طريقهم والذين وصفهم الله بالضالين. - ومنهم من عنده علم بلا عمل وهؤلاء أشبهوا اليهود ومن سلك طريقهم الذين وصفهم الله بالمغضوب عليهم. - ومنهم من عنده علم وعمل وهؤلاء هم العلماء الصادقون وهم على طبقات فكلُّ من كان أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأكمل في العمل والدعوة، كان أقرب الناس من الرسل ومن درجاتهم ومنازلهم في الجنة. والعلماء فضَّلهم الله على سائر الخلق، وعلّمهم الكتاب والحكمة وفقّههم في الدين، وهم ورثة الأنبياء، أخلاقهم عظيمة، وصفاتهم حميدة، رفعهم الله بالعلم، وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة. قال الله في بيان فضلهم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(11)سورة المجادلة. ففي هذه الآية وعد الله المؤمنين أن يرفعهم ثم خص العلماء بزيادة الدرجات، مما يدل على عظم فضلهم. - وأيضا مما يدل على فضلهم أن الله استشهد بالعلماء مع الملائكة على وحدانيته واستحقاقه للعبادة قال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(18)سورة آل عمران. - وأيضا نفى الله المساواة بين أهل العلم وبين غيرهم من الناس، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(9)سورة الزمر. وقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(19)سورة الرعد. - وأيضا قال تعالى في بيان فضلهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(28)سورة فاطر. أي أنّ العلماء وعلى رأسهم الرسل هم أهل الخشية الكاملة، وكلما زاد نصيب العبد من العلم والعمل زادت خشيته لله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له). (رواه مسلم). - وأيضاً قال الله تعالى في بيان فضل العلماء: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(269) سورة البقرة. وأيضاً قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(24)سورة السجدة. وأما من السنّة فهناك أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلوا) (متفق عليه). - وقوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) (رواه البخاري ومسلم). - وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله به طريقاً إلى الجنة) (رواه مسلم). - وقوله صلى الله عليه وسلم: (فضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإنّ العلماء لهم ورثة الأنبياء وإنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) (رواه الترمذي وابن ماجه). أخي المسلم: اعلم - وفّقك الله لكل خير - أنّ من صفات العلماء الصادقين وأخلاقهم: - الإخلاص لله تعالى: قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (108)سورة يوسف. ففي قوله: {أَدْعُو إِلَى اللّهِ} تنبيه على الإخلاص وهذا هو أساس قبول العمل فهم يخلصون في طلب العلم وفي تعليمه، يقول صلى الله عليه وسلم: (من تعلّم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة) (رواه أبو داود). - ومن صفاتهم سلامة المعتقد: فهم يسيرون على منهج أهل السنّة والجماعة في تلقِّي الدين ولا يُحرفون النصوص ولا يأولونها ويأمرون بالاتباع وينهون عن الابتداع. - ومن صفاتهم العمل بالعلم: لأنّ العلم ليس مقصوداً في ذاته بل المقصود العمل، فالعالم هو الذي يوافق قوله فعله ويعمل بعلمه وإن خالف هذا العمل هواه وقد عاب الله تعالى على اليهود تقديمهم هوى أنفسهم على الحق قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ}(87) سورة البقرة. - ومن صفاتهم الرسوخ في العلم: قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}(7)سورة آل عمران. وقال تعالى: {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(79)سورة آل عمران. - ومن صفاتهم المسارعة إلى الخيرات: فهم يسارعون في الخيرات ويبتعدون عما حرّم الله تأسِّياً بالرسل الذين قال الله عنهم: {فإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}(90) سورة الأنبياء. - ومن صفاتهم مراقبة الله في السر والعلن: فالعالِم يجعل مراقبة الله في السر والعلن شأنه في كل وقت لأنّ على العالِم ما ليس على غيره فهو مسؤول عن علمه، قال صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، وذكر منها عن علمه ماذا عمل به). (رواه الترمذي). - ومن صفاتهم عدم التعصب: فأهل العلم لا يتعصّبون لقول معيّن أو مذهب معيّن لأنّ هذا يؤدي إلى الفرقة والاختلاف قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}(159)سورة الأنعام. بل الواجب هو الرد إلى الله ورسوله كما قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(59) سورة النساء. (*) إمام مسجد الصرامي بحي الشهداء