الوفاء بالعهد واحترام المواثيق والعقود من الصفات الكريمة التي اشتهر بها العرب قبل أن يأتي الإسلام، ويجعل من الوفاء بالعهد أمراً إلهياً لا يقدم على مخالفته مسلم كامل الإيمان، بما في ذلك العهود مع غير المسلمين، وجعل نقض العهد من صفات المنافقين وقرين الكفر، وعده الأئمة من الكبائر الموجبة للعنة الله سبحانه وتعالى وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة.. ومما يعجب له أن تساهل بعض المسلمين في الوفاء بالعهد والالتزام بالعقود والاتفاقات بل وتعمد بعض الضالين نقض هذه العهود.. واعتدوا على عهود الأمان باعتدائهم على بعض المعاهدين من غير المسلمين في بلاد الإسلام جهلاً بتعاليم الدين، أو انسياقا وراء دعاوى باطلة أو توهم تحقيق مصلحة، غير مدركين أنهم بذلك ينقضون عهد الله، ويخالفون أوامره، فما هو جزاء نقض العهد ومجالاته وأكثرها خطورة.. وما هي دلائل تحريم نقض العهد في الإسلام التي تجعله سلوكاً مرفوضاً لا تقره الفطرة السوية والخلق الكريم. ******** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ********* بداية يقول فضيلة د. صالح بن عبدالرحمن المحيميد رئيس محاكم منطقة المدينةالمنورة: الإنسان هو أشرف المخلوقات، وأعز الكائنات، كرمه الله تعالى حيث سخر كل شيء له ومنحه عقلاً يميز به ما ينفعه، وما يضره، وخصه من بين الخلق لشرعه، وفطره على معرفته والتوجه إليه، وكل هذا واضح لمن تتبعه وقصد العلم به، ومن رحمة الله بخلقه إرادته سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولأنه لا قدرة لهم على معرفة ما يسعدهم فقد شرع لهم الشرائع، وفرض الفرائض وحد الحدود، وبين الحلال والحرام والواجب والمندوب والمباح، وبعث الرسل ليبينوا للناس مراد الله منهم، وكان خاتم رسل الله محمد- صلى الله عليه وسلم-، أرسله الله بالإسلام خير الأديان وأفضل الشرائع تضمن ما يحقق للبشر الخير ويبعد عنهم الشر ويحقق لهم الحياة الكريمة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، وكان من عظيم حكمة الله تعالى أن جعل الناس شعوباً وقبائل لما في ذلك من المصالح العظيمة للخلق، فلو كانوا على قلب رجل واحد ما استقامت الحياة، وكانوا نسخاً مكررة لكن أراد لهم التمايز وعدم التطابق، وربط بعضهم ببعض، فكل فرد بحاجة للآخرين ولن يستطيع العيش وحده، وإن عاش فعيشة ضنك، الموت خير منها، كما أن الله فطرهم على الاجتماع والتعاون وتبادل المصالح، وبين في الشرع ما يجوز من العلاقات وما يحرم منها، وما يصح من المعاملات، وما لا يصح، وأن من أعظم الروابط التي جاء بها الإسلام (الوفاء بالعهد) والعهد هو اليمين والأمان، والموثق، والذماء، والعهد لا يكون إلا من اثنين فكل واحد يلتزم أن يفعل بصاحبه مثل ما يفعله صاحبه به. ومن العهد: أمر الله لعباده بطاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية ومن العهد أيضاً ما يكون بين المسلمين والمشركين لحديث عمر بن عبسة - رضي الله تعالى عنه- قال: كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر، الله أكبر وفاء لا غدر، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقده ولا يشدها حتى يمضي أمرها أو ينبذ إليهم على سواء) فبلغ ذلك معاوية فرجع. الخيانة والغدر ويضيف الشيخ المحيميد: ولا يصح للمسلم أن يلتزم بعهد يخالف الإسلام وإذا عقد العهد فلا يصح أن ينقضه، فذلك خيانة وغدر وكبيرة من كبائر الذنوب قال الله جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، وعن أنس- رضي الله عنه- أنه قال: ما خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا قال:( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له.) رواه الإمام أحمد، وعن بريدة- رضي الله عنه- قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم ولا ظهرت فاحشة في قوم إلا سلط الله عليه الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر). رواه ابن ماجه. وعن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- انه قال:( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه). قال ابن الجوزي- رحمه الله-إن نقض العهد من صفات الفاسقين، وقال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى: (الغدر حرمته غليظة ولاسيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى إلى خلق كثير). وإن من الحقائق الثابتة ان عواقب نقض العهد وخيمة، والأمثلة لا تكاد تحصر ومن ذلك نقض اليهود لعهودهم التي بينهم وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان ذلك سببا لإجلائهم من المدينة، وطردهم منها، وكذلك كان عاقبة نقض قريش العهد مع خزاعة حلفاء النبي- صلى الله عليه وسلم- فقد سلط الله على قريش رسوله والمؤمنين فغزوهم في عقر دارهم، وأسقطوا سلطانهم، وصاروا بعد العزة والقوة في غاية الوهن والضعف، وقد أوجب الله على المسلمين مراعاة عهودهم وعقودهم، وألزمهم الوفاء بها مادام الطرف الآخر مستقيماً على العهد، فإن ظهر منهم ما يدل على نقضهم للعهد، فالواجب اعلامهم بانتهاء العهد، ولا يصح أخذهم على غرة، ومما تقدم يظهر بما لا يدع مجالا للشك ان الإسلام عظم أمر الوفاء بالعهد، وحرم نقض العهد والغدر بالمعاهدين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأن عدم الوفاء بما نعاهد عليه له أضرار دينية ودنيوية بليغة، منها أنه يزعزع الثقة في المسلمين، ويجعلهم ليسوا أهلاً للثقة والاعتبار، ويوجب البعد عنهم وعدم التعامل معهم، وفي ذلك من الإضرار ما لا يخفى على عاقل عارف، ومنه يظهر أيضاً بما لا يدع مجالاً للشك أو التأويل أن ما تقوم به الشرذمة الضالة والفئة الباغية من الاعتداء السافر والعدوان الظاهر على الآمنين الأبرياء من المسلمين وغيرهم من الوافدين لبلاد الحرمين للعمل بها وفق عقود وعهود ان الاعتداء محرم بنص القرآن، ومن أقره أو رضيه فإنه شريك في الإثم بل إنكاره واجب لأنه جمع معاصي عظيمة منها الغدر، ونقض العهد، ومنها الافتيات على ولي الأمر ومنها الإخلال الظاهر بالأمن والأمان وإشاعة الخوف وعدم الاستقرار، وكل هذا يضر بالبلاد من كل النواحي وينفر من العرب والمسلمين، وهو سبب ووسيلة لإيذائهم في كل مكان وتسليط الأعداء عليهم، وتخريب علاقاتهم بالأمم وكل هذا له عواقبه الوخيمة على البلاد وأهلها في الحاضر والمستقبل ولا يرضى بها الغدر والافتيات إلا منكوس الفطرة مقلوب العقل. الوفاء بالوعد أما فضيلة د. محمد بن حجر الظافري رئيس المحكمة الجزئية بالباحة فيقول: كان العرب قديماً يشتهرون بالصفات الحميدة والخصال الكريمة، ومن ذلك الوفاء والثبات على العهد، واشتهر بذلك أناس بعينهم حتى ضرب بهم المثل وأصبح الناس يلهجون بذكرهم في الأندية والمجتمعات ويترنمون بمدحهم وحسن الثناء عليهم، وممن اشتهر بينهم بالوفاء السموأل بن عاديا، وكان من وفائه ان امرأ القيس لما أراد الخروج إلى قيصر الروم استودع السموأل دروعاً له فلما مات امرؤ القيس طلبها منه الحارث بن المنذر فأبى فغزاه من أجلها فتحرز منه السموأل فأخذ ذلك الملك ابنا له خارج الحصن خيره بين ذبح ابنه وتسليم الدروع فأبى أن يسلمه الأمانة ففجعه بذبح ابنه وهو ينظر إليه ووافى السموأل الموسم بالدروع فدفعها إلى ورثة امرئ القيس الذي كيف آثر الوفاء بالوعد وحفظ الأمانة وتسليمها لأهلها على ابنه وفلذة كبده. ويضيف د الظافري: ولما جاء الإسلام رفع من شأن الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، وأنزل في ذلك قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}، المائدة (1). وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} النحل (91)، وأثنى الله على نبيه ورسوله إسماعيل، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}، فقدم صدق الوعد لأهميته على النبوة والرسالة لأنه لا يكون نبيا إلا بعد الاتصاف بهذه الصفة، فقد وعد إسماعيل أباه أن يصر على الذبح ووفى بعده وصدق فيه، بل أمر الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود حتى مع المشركين، فقال تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ}، إلى قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}التوبة من 1 - 4، فجعل الله الوفاء بالعهد من التقوى، وحذر من نقض العهد وخلف الوعد فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)، ومن كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، رواه البخاري. وعن أنس- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة) رواه البخاري والأحاديث المحذرة من نقض العهد كثيرة جداً. وقد نفى الله سبحانه وتعالى صفة الإيمان عن الناقضين للعهود، وقرن بهم الكفر ونقض العهد في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وجعل جزاء نقض العهد بأن لعنهم وأعد لهم سوء الدار، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، وجعل الله عقوبة نقض العهد العداوة والبغضاء: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}، وتحريم الطيبات: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا}، والقتل والتشريد: {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}، والضلال والخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة ومن الصفات التي وصف الله بها الناقضين للعهد أنهم شر الدواب، فقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ}. السلوك المذموم من جانبه يقول الشيخ عبدالله بن ناصر الصالح مدير مركز الدعوة والإرشاد بالرياض: نقض العهد يعني اصطلاحا عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام بها، أو قطعه على نفسه من عهد، أو ميثاق سواء فيما بينه وبين الله، أو فيما بينه وبين الناس. وحكمه: قال الذهبي الكبيرة الخامسة والأربعون الغدر وعدم الوفاء بالعهد، واحتج لذلك بقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}، وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}، أما الإمام ابن حجر فقد ذكر عدم الوفاء بالعهد على أنه الكبيرة الثالثة والخمسون، وقال: عدُّوا هذا من الكبائر، وهو ما وقع في كلام غير واحد. وإن من الصفات الحميدة التي يتصف بها المؤمنون الموحدون (الوفاء بالعهود)، كما أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم بذلك في كتابه العزيز بقوله تعالى في سورة الرعد: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}فكان الوفاء به صفة حميدة، ونقضه صفة ذميمة، بل هي من صفات المنافقين الأشقياء كما ذكر الله سبحانه أيضاً في سورة الرعد: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، وكما ثبت في الحديث الذي رواه البخاري عن عبدالله بن عمر- رضي الله عنهما-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). ويضيف الشيخ الصالح: لذا كان لزاماً على المسلم الوفاء بالعهود، وعدم التهاون في نقضها، لأن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهود، كما ذكر سبحانه في سورة النحل: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ}، وهو لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان، ويلزمه الإنسان نفسه من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة. فالواجب على كل مسلم أن يرضى على أن يتحلى بالصفات التي أثنى فيها سبحانه على أهل الإيمان، ومنها عدم نقض العهود حتى لو كان مع الكفار، وذلك اتباعا لما أمر الله به في كتابه وعلى لسان نبيه، فيعد النقض من السلوكيات الذميمة، والصفات القبيحة التي يرفضها الإسلام وحرمها على أتباعه، ولنا في إمام المرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، فهو قدوة لأمته في أفعاله، وأقواله لأنه - عليه الصلاة والسلام - لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو- صلى الله عليه وسلم- تحلى بجميل الخصال وسلامة الفعال، ومن ذلك الوفاء بالعهد، فالناظر في سنته - عليه الصلاة والسلام -، والمتأمل في سيرته يرى من ذلك الكثير والكثير، حتى مع ألد أعدائه. مجالات نقض العهد ويتفق الشيخ محمود بن محمد المختار الشنقيطي مع الرأي السابق في تعريف نقض العهد بأنه عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام به أو قطعه على نفسه من عهد أو ميثاق، سواء فيما بينه وبين الله تعالى، أو فيما بينه وبين الناس، ويضيف وثمة فرق بين نقض العهد والخيانة وكتب الفروق اللغوية تفرق بينهما بأن الخيانة تقضي نقض العهد سراً، أما النقض فإنه يكون سراً وجهراً، ومن ثم يكون النقض أعم من الخيانة ويرادفه الغدر، أما حكمه فقد عده الإمام الذهبي - رحمه الله - من الكبائر في كتابه (الكبائر)، كذلك عده ابن حجر الهيثمي - رحمه الله - في كتابه الزواجر. ومن مجالات نقض العهد ما يمكن تلخيصه فيما يلي: 1- التوحيد والإيمان بالله وبسائر أركانه والإيمان وواجباته، وهو أعظم مجالات نقض العهد لأن الناقض لعهده مع الله تعالى حكم عليه ربنا بالكفر قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ} (النساء: 155)، وفي بيان الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (البقرة: من الآية 83). 2- في العبادة العملية والتكاليف الشرعية، كعدم إتمام الفرائض وأدائها على غير ما أمر الله به، وهذا نقض للعهد الذي أخذه الله على عباده بطاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56). 3- الأخلاق مع من يلي المسلم من خاصة وعامة، وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله). 4- المعاملات وتأتي آية المائدة مؤكدة هذا الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} (المائدة: من الآية 1). 5- العلاقات الدولية. 6- القضايا الاجتماعية، {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء 20، 21). 7- الجهاد في سبيل الله. وعن الآثار الضارة لنقض العهد يقول الشيخ الشنقيطي منها بغض الله للناقض للعهد، وتسلط الخلق عليه ونزع الثقة منه، وكما أنه من إمارات النفاق وفيه صفة من صفات المنافقين، وناقض العهد يضر نفسه قبل أن يضر غيره، إضافة إلى تفكك المجتمع الذي يكثر فيه نقض العهد، وتسلط الأعداء على المجتمع. ميثاق الدولة المسلمة أما الشيخ أحمد بن جزاع الرضيمان المشرف التربوي لمعلمي العلوم الشرعية وخطيب جامع الساقية بحائل فيقول: مما بيّنه الله لنا، وحذرنا منه، نقض العهد، والغدر والخيانة، بل لقد قرن الله تعالى بين الكفر ونقض العهد والميثاق، في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}ونفى الله تعالى الإيمان عن النابذين لعهودهم، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}، وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. ويؤكد القرآن الكريم أن الخسران هو مآل الذين ينقضون عهد الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. ولما نقض بنو إسرائيل عهودهم لعنهم الله، وجعل قلوبهم قاسية، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}. وكذلك النصارى لما نقضوا الميثاق والعهد، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}وهكذا كل من سلك سبيلهم، فإنه يغشاه ما غشيهم، جزاء وفاقا. وقد وصف الله تعالى الناقضين للعهود والمواثيق بصفات النفاق والكذب قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}، ونفى عنهم العقل قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، وروى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها). ويضيف الشيخ الرضيمان: وإذا كانت عاقبة الناقضين للعهد الخزي والسوء في الدنيا والآخرة - كما دلت عليه النصوص الشرعية التي نقلنا بعضها - فإن عاقبة الموفين بالعهود والمواثيق السعادة في الدنيا والآخرة، وذلك لما للوفاء بالعهود من آثار حميدة، فمن ذلك: حب الله تعالى لهم قال تعالى: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، وحصول الأمن، وحفظ الدماء، بل إن قتيل الكفار الذي يقتل خطأ من قِبل المسلمين، له مثل ما للمسلمين سواء بسواء، والكافر الذي يطارده المسلمون لقتله، عندما يلجأ إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، ويدخل في حكمهم، يعصم دمه قال تعالى {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}. وفي سورة الأنفال إعطاء الأمان الصريح لمن لهم ميثاق، فإذا كانت الدولة المسلمة لها ميثاق مع أحد من الكفار، فإنه لا تساعد على قتلهم، ولا تنصر من استنصر بها لقتلهم، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}، فشأن العهد في الإسلام عظيم، نوه الله بشأنه فقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}.