الأنانية من السلوكيات الممقوتة وتعد من أخطر ما يقوض بنيان العلاقات الإنسانية، والروابط الاجتماعية، وتزرع الحقد والضغائن في النفوس، إضافة إلى أنها تسلب الآخرين حقوقهم، وجهودهم، فهل الأنانية مرض نفسي أم خلل في التفكير وضعف في الوعي؟ وما علاقتها بالحسد؟ وهل هي نتيجة له أو سبب؟ وما الآثار الاجتماعية السيئة المترتبة على هذا السلوك البغيض؟ وكيف يمكن للأناني أن يتخلص من هذا الخلق الذميم؟ حماية لعقيدته ونفسه ومجتمعه؟ جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. مصطلح عصري بداية يؤكد د. فهد بن سليمان الفهيد وكيل كلية أصول الدين للدراسات العليا بالرياض أن الشرع المطهر نهى عن الاستئثار بأمور الدنيا والحرص عليها وترك مواساة الآخرين من المسلمين ومحبة الخير لهم. وهذا ما يعبر عنه بعض الناس ب (الأنانية) وهو مصطلح عصري حادث يراد به ما تقدم ومرد هذا السلوك أمراض كامنة في النفس يمكن جمعها في الأثرة والعجب والغرور وحب الظهور ومحبة أن يُحمد المرء بما لم يفعل ومنها أيضاً الحسد وشح النفس. وهذه أخلاق محرمة في الإسلام وعلى العبد أن يسعى في تطهير نفسه منها وأن يتخلق بأضدادها فضد الأثرة، الإيثار قال الله تعالى عن الأنصار:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فالإيثار خلق محمود وهو داخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، فالمؤمن الصادق يحب لإخوانه ما يُحب لنفسه ويتمنى لهم الخير ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم. وضد العجب والغرور وحب الظهور: الإخلاص والصدق مع الله جل وعلا فيريد الإنسان بأعماله وجه الله ولا يهمه أن تنسب له وتضاف إليه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ}، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} والنصوص في التحذير من الرياء والسمعة كثيرة جداً، وقال الشافعي - رحمه الله - وددت أن الناس استفادوا من علمي ولم ينسب إلي منه شيء. ويضيف د. الفهيد: وبعض من أصيبوا بهذا يحبون أن تضاف جميع الأعمال اليهم وإن كانوا لم يقوموا بها ويحبون أن يثنى عليهم ويشكروا أمام الناس، وقد قال الله تعالى:{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أما الأبرار فإنهم يعملون ويجتهدون ويحرصون على البعد عن ذلك:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا }. وهذا المرض (الأنانية) يدل على ضعف في النفس أمام هذه الشهوات الخفية، ويدل أيضاً على قلة الإدراك، ومعرفة العواقب الحميدة بتقديم رضا الله على رضا الناس. وله أيضاً ارتباط بالحسد المذموم والذي يعرفه العلماء بأنه: كره نعمة الله على الغير، وبعضهم يقول هو تمني زوال النعمة عن الغير، والأول أعم وأشمل، والحاسد يريد لنفسه ولا يريد لغيره خيراً، والحاسد يكفيه من شؤم حسده أنه يحترق قلبه كمداً. وأهون خصال الحسد: ترك الرضا بقضاء الله وقدره، والاعتراض على القدر، وهذا من أرذل الأوصاف والأخلاق ومن الحسد يتولد الحق، والحقد أصل الشر ومنبته. وشح النفس هو بخلها ومنعها لما وجب اعطاؤه واخراجه وضد ذلك طيب النفس وكرمها وجودها وبذلها لما تحب رغبة فيما عند الله، وإحساناً إلى عباد الله، وتركاً للتعلق بملاذ الدنيا وشهواتها طمعاً في فضل الله ورحمته. الزهد في الدنيا ويستطرد د. الفهيد: و (الأنانية) إذا أريد بها تقديم النفس في أمور الدين والخير مثل النفقة الواجبة والرعاية والالتزام بما أوجب الله، فهذا معنى صحيح (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) إلا أن غالب من يعبر بهذا المصطلح لا يريد هذا المعنى وانما يقصدون به ما تقدم من تلك الأخلاق الذميمة التي هي مجموع الأثرة، والحسد، وشح النفس والتي لها آثار سيئة على العبد نفسه وعلى المجتمع، فهي تولد الحقد والكراهية وتُذهِب النصح والصدق، وهي منبت الكذب والغرور وادعاء الأعمال والتظاهر بها، وهي تؤدي إلى الاعتراض على قضاء الله وقدره ولا يسلم صاحبها قط من وجود الكبر في قلبه، والكبر من أسباب حرمان الجنة وهو مشابهة لعدو الله إبليس حينما حسد آدم ومشابهة لأعداء الله اليهود، كما أن الأنانية توجب البغضاء والتدابر والتقاطع، فينعدم الخير ومحبة النصح وفي الحديث :( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وفي الجملة فإنها مجمع الشر وأصله. وحول سبل علاج هذا السلوك المقيت يقول د. الفهيد: ما من داء إلا له دواء وأعظم دواء لهذا الخلق الذميم هو الزهد في الدنيا، ومعرفة قدرها وحقارتها، وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة فلا وجه للمنافسة فيها عند العقلاء، ومن العلاج أيضاً الرضا بقضاء الله وقدره والرضا بتدبير الله للعبد، ومن العلاج أيضاً النصيحة الواجب بذلها للمسلمين ومعناها حب الخير وإيصاله لهم، وهذا كله يخلص العبد من هذا الخلق السيئ، كما أن على العبد أن يعالج نفسه بألا يتابع وساوس الصدر وهموم القلب وأن يدافعها إذا كانت في الشر ويستعيذ بالله منها ومن الشيطان الرجيم. ومن أنواع العلاج كثرة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يعافيك من هذا وأمثاله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. مرض يصيب النفس من جانبه يرى الشيخ علي بن سالم العبدلي المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية بالجوف أن النفوس الإنسانية المسلمة قد تصاب أحياناً بالغفلة والفتور عن طاعة الله تعالى وقد يصيبها ذلك في زحمة الأعمال والاتجاهات والأهواء الكثيرة والارتباطات الأسرية مع عمل دؤوب من الشيطان ليضل المسلم فيوقعه بالمعاصي والذنوب من غيبة أو نميمة أو بهتان أو كذب محاولاً نشر الفرقة والضغينة بين أفراد المجتمع المسلم عن طريق سلوكيات يحرمها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن تلك الأمراض الأنانية، وهي صفة مقيتة تدل على خبث النفس وحب الذات وكراهية الغير ومبين ذلك كله حقد وحسن ضغينين ولا أدل على تحريم ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهي علامة على حب الذات والإثارة على الغير. والأنانية مرض يصيب النفس ويملأها حقداً وضغينة تتعمق في القلب حتى يصدر عنه سلوك عملي وذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وعلى ضوء ذلك فالأنانية مرض نفسي يبتلى به المسلم يحاول الشيطان أن يستغله ليتحول إلى آثار سلوكية تفرق بين الفرد والجماعة، والواجب على الإنسان المبتلى بهذا الأمر أن يتذكر عدل الله سبحانه وتعالى في تقسيم الأرزاق، وأن يذكر نفسه دائماً بالقناعة والرضا وأن يجاهدها بحب الآخرين والدعاء لهم وأن يحرص على أن يؤدي الحقوق لأصحابها وأن لا يسلبهم إياها مستشعراً قوله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}. حب زوال الخير ويضيف الشيخ العبدلي: وللأنانية علاقة واضحة بمرض آخر من أمراض النفوس وهو الحسد فالأنانية سبب واضح للحسد، والحسد نتيجة واضحة للأنانية فإذا سلك الإنسان مسلك الأنانية قاده ذلك للحسد وهو حب زوال الخير عن الغير، أما الآثار الاجتماعية السيئة المترتبة على الاتسام بهذا السلوك فكثيرة وخطيرة.. فمبناها على اهتمام الإنسان بذاته دون النظر إلى إخوانه من أفراد المجتمع فتجده منشغلاً بعيوب غيره من الناس مما يؤدي إلى الفرقة بين الأفراد وعدم مراعاة حقوق الآخرين وعدم القيام بما يجب عليه تجاههم من واجبات مما يضفي على المجتمع لباس الفردية والفوضوية وحب الذات على عكس ما يجب أن يكون المجتمع المسلم من تآلف وحب للخير وتعاون ومشاركة الآخرين أفراحهم وأتراحهم قال تعالى:{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} كذلك يؤدي انتشار هذا المسلك إلى استفحال المعاصي والذنوب من ظلم وفساد وغيبة ونميمة وحقد وحسد. وعن كيفية التخلص من هذا الخلق الذميم والفوائد المترتبة على ذلك دينياً واجتماعياً ونفسياً يقول الشيخ العبدلي: يستطيع المرء التخلص من هذا المرض باللجوء إلى الله سبحانه وتعالى ودعائه بأن يطهر نفسه وقلبه من هذا المرض، وأن يجنبه اتباع الهوى ومضلات الفتن وأن يوفقه لما يحبه ويرضى وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -:( اللهم أني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) وأن يتهم نفسه ويحاسبها دائماً ويعرضها على كتاب الله وأن يخالفها إذا دعته إلى هوى نفسه وحب ذاته وما أحسن ما قال أبو العتاهية: خالف هواك إذا دعاك لريبة فلرب خير في مخالفة الهوى وأن يذكر الإنسان نفسه دائماً بأن الدنيا وما فيها من حطام إنما هو زائل وإنما السباق في الطاعة والخير وأن يستشعر أن إيمانه لا يكمل إلا إذا أحب لغيره ما يحب لنفسه، والفرد إذا كفاه الله هذا الداء سلم دينه وطهر قلبه وسمت نفسه، فيسلم دينه بعدم الوقوع بالذنوب والمعاصي التي كانت ملازمة للأنانية من غيبة ونميمة وحسد وحقد ويسلم دينه أيضاً بكامل إيمانه وحبه الخير للناس كما يستفيد اجتماعياً من تقوية علاقته الإنسانية وروابطه الاجتماعية بينه وبين أفراد مجتمعه فيقوى هو بمجتمعه ويقوى مجتمعه به فيصبح مجتمعاً إسلامياً متكافئاً مترابطاً وأما نفسياً فتسمو نفسه وتطهر مما كان يسوء بها ويكدر صفوها ويضعف تركيبتها من دسائس وضغائن وأحقاد. المصلحة الفردية أما د. الجوهرة بنت محمد العمر أستاذ الإدارة التربوية المساعد بكلية التربية للبنات بالرياض فتقول الأنانية مرض من أمراض النفس البشرية المتفشية في هذا العصر، وهي تتنافى مع تعاليم الإسلام لأنها تعنى بحب الذات وإيثار المصلحة الفردية على المنفعة الجماعية، وقد تستفحل الأنانية لدى البعض فتعظم الذات حتى أن أوامراها تقدم على أوامر الشريعة الإسلامية وأوامر الله سبحانه وتعالى. وعلى النقيض من الأنانية يأتي الإيثار وهو تقديم مصلحة الآخرين على المصلحة الفردية، وقد دعا الإسلام إلى الإيثار فذكره الله كصفة من صفات المؤمنين الصادقين فقال تعالى في الأنصار:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (9) سورة الحشر وقال - صلى الله عليه وسلم -:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). والإيثار صفة حميدة تجلب الخير والفلاح للمجتمع الإنساني فبالتعاون والتكافل والتلاحم والعمل الجماعي يتحقق الفوز والفلاح. وتضيف د. الجوهرة: وتبدو لنا الأنانية المقيتة والنرجسية المتعالية في بعض المظاهر والسلوكيات اليومية التي يقوم بعض الأفراد الذين يستخدمون المرافق العامة من حدائق وهواتف أو أماكن قضاء الحاجة ثم يتركونها بأسوأ حال دون أدنى إحساس بالمسئولية تجاه هذه المرافق أو مراعاة لمصلحة من يأتي من بعده من الناس. ومن مظاهر الأنانية أيضاً أن يقوم بعضهم برفع صوت مذياع السيارة ليلاً بطريقة تؤذي الأصحاء فما بالك بالمرضى أو الأطفال النائمين وكأن الطريق مهد لهم وحدهم وليس لغيرهم حق التمتع به أو الاستفادة منه. والإنسان الأناني قد يظلم ويؤذي حتى أقرب الناس إليه في سبيل تحقيق مصلحة فردية أو منفعة دنيوية أو مادية وقد تفشت هذه الصفة الذميمة للأسف نتيجة للبعد عن الخلق الإسلامي القويم والغفلة عن تعاليم الإسلام العظيمة. وللقضاء على هذه الصفة الذميمة ومحاربتها لا بد من الرجوع إلى الدين الإسلامي وقيمه السامية، لأن شرائع الإسلام تدعو إلى الجماعية حتى أن التكليفات الشرعية تؤدى بصورة جماعية كصلاة الجماعة والحج والصوم الذي يؤدى من جميع المسلمين في وقت واحد وبصورة واحدة وفي ظل أحكام شاملة للجميع. والالتزام بتعاليم الإسلام وتعميق الإيمان بالله يقضي على الأنانية لأنه يؤدي إلى تعظيم الخالق في نفس الإنسان وتحقير ما دونه من المكاسب والمصالح الدنيوية. والإنسان المؤمن يشعر بآلام الآخرين ويهتم بأوضاعهم ويشاركهم اهتماماتهم وبذلك تتحقق فضيلة الإيثار والإحساس بالمسئولية تجاه الجماعة الإسلامية فالأنانية والإيمان لا يجتمعان في قلب مسلم صح إسلامه. كما أن على الأسرة والمؤسسات التربوية انطلاقاً من المسجد ومروراً بالمدرسة إلى النادي أو المركز الصيفي مسئولية كبيرة لتنمية شعور الطفل منذ نعومة أظافره بالمسئولية تجاه الجماعة وتجاه المجتمع ليشعر بأنه جزء من هذا المجتمع فكما له حقوق يطالب بها فعليه أيضاً واجبات يجب أن يقوم بها ويؤديها تجاه مجتمعه وبذلك نكون مجتمعاً إسلامياً مترابطاً مجسداً لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النعمان الذي رواه البخاري ومسلم:( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). مقت الأنانية من ناحيته يقول د. عبدالرحمن بن سليمان الهويسين مدير إدارة الجاليات بفرع وزارة الشؤون الإسلامية بمنطقة الرياض: جاء الإسلام متمماً لمكارم الأخلاق حاثاً على حسنها ناهياً عن سيئها، ولم يبطل الدين أول مجيئه كل عادات الناس وما نشؤوا عليه بل أقر منها الشيء الكثير المتوافق مع الفطرة الإنسانية. ومن آيات الله العجيبة في هذا الكون قيام المخلوقات الحية واستقامة حياتها بالثنائية أو الجماعية وأشار القرآن الكريم إلى شيء من هذا في قوله سبحانه:{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (49) سورة الذاريات. وعندما خلق الناس جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتناسلوا.. بل حتى الأفكار والمعارف تحتاج إلى تلاقح وحوار حتى تظهر إلى حيز الوجود مثمرة نافعة فلا يمكن أن تسير الحياة بشكل فردي حتى في أمور الحكم والسياسة فلقد كان من التوجيهات القرآنية،{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (159) سورة آل عمران. ثم جاء الإسلام معززاً الجانب النفسي والأخلاقي في هذا الجانب فأمر بمراعاة المشاعر ومحبة الآخرين إن كانوا مسلمين والإحسان إلى الخلق بعامة وكل هذا ابتعاد بالمسلم عن النزعة الفردية ومحبة المصلحة الشخصية وتقديمها على المصلحة العامة وهو ما يعرف عند الناس (بالأنانية) الأنانية تلك المفردة المزعجة التي يهرب منها الجميع حتى المتصفين بها مما يدل على البغض المستشري في قلوب الناس تجاه هذه اللفظة النشاز. بل إن الإسلام قد مقت الأنانية وحذر منها بعدة صور فمن مدح للمؤثرين على أنفسهم إلى وصفهم بالمفلحين إلى نفي الإيمان عمن كانت محبته لنفسه فقط فها هو جل وعلا يبرز أهم صفة لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر، ويكمل جل وعلا هذه الآية بوصف رائع لمن اتصف بعدم الأنانية بقوله جل وعلا:{وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (16 التغابن). وها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يضع الدستور لمحاربة هذه العادة المقيتة فيقول:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) البخاري، ولذا فقد خلا المجتمع الإسلامي في عهد رسول الهدى والرحمة وعصر القرون المفضلة من هذه الصفة القبيحة إلا ما ندر وفهم الصحابة رضوان الله عليهم لهذا المبدأ وتمسكهم به تعج به كتب السير والتاريخ عن مواقفهم وإيثارهم لإخوانهم على أنفسهم حتى وهم في أشد حالات الحاجة بل وهم بين الحياة والموت وحياتهم متوقفة على شربة ماء ونراهم رضوان الله عليهم يؤثرون بهذه الشربة غيرهم اعتقاداً من أحدهم أن أخاه أحق منه وذلك ناتج عن بعد الأنانية من نفوسهم بعد المشرقين. نقم النعمة من الآخرين ويضيف د. الهويسين صحيح أن من المستقر في القلوب ابتداء محبة الإنسان لنفسه محبة تفوق محبته للآخرين سوى ما يحتمل في نفوس الوالدين والعشاق إلا أن الإسلام هذب هذه المحبة وجعل محبة الله ورسوله وما جاء به مقدمة على ما سوى ذلك وفي قصة عمر إشارة لذلك، وحث أيضاً على مراعاة المسؤولية تجاه الغير والحرص على المصلحة العامة لأن في هذا قياماً للحياة واستقامة للمعيشة وعلى هذا يكون الأناني غير محب لاستمرار الحياة غير عابئ بالاستقرار العام مما يدل على هزال عقله وقلة وعيه وضعف إدراكه، وإلا فإن المصلحة العامة يدخل فيها ولا شك المصالح الخاصة. ويؤدي هذا بالشخص المفرط في (الأنانية) إلى أن ينقم النعم على الآخرين ولا يكتفي بالتطلع إلى ما في أيديهم بل ربما تمنى زوالها وهذا هو الحسد في الاصطلاح الشرعي.. ومسكين هذا الشخص الذي ليس بأحسن حالاً من اللهب الذي يتغذى ببعضه وكما قال الشاعر: أصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله لنا أن نتخيل مجتمعاً لا يهم أفراده شيء سوى مصلحة أنفسهم.. ولو على حساب الآخرين لا شك إنه مجتمع مقيت، والعيش فيه أصعب من الحياة في غابة مكتظة بالسباع والوحوش وأما الأناني ذاته: فانظر إلى حاله وما يعتريه من الضيق والكدر جراء نجاحات الآخرين، وتأمل حال هذا المجتمع وقد افتقد شرط الحياة (الجماعية) لتجد مجتمعاً بائساً لا أثر لرونق الحياة وبهائها فيه. ومع هذا كله فإن (الأناني) فرد من المجتمع لا يمكن أن نعزله عنه، أو أن نقطع عليه طريق العودة بل يجب أن يدعى إلى الرجوع إلى جادة الحق، والأوبه إلى مجتمعه وربما كان ذلك شاقاً على النفس عسيراً على الطبع لكن المسلم الراجي ما عند ربه يهون عليه كل شيء في سبيل تحقيق الكمال المطلوب منه بحسب طاقته البشرية سيما إذا أمعن هذا (الأناني) التفكير، وعلم مدى حاجته إلى غيره فإنه والحال هذه ربما استطاع شق الطريق وتجاوز النفق المظلم الذي يعيش فيه. في مقابل هذا كله: تصور مجتمعاً نظيفاً تقوم العلاقة فيه على أساس المصلحة المشتركة للجميع لا فردية، لا تنافس مذموماً، لا طغيان لمصلحة الفرد على المصلحة العامة.. ستجد ولا شك مجتمعاً لم يحلم به أفلاطون في مدينته.. ولكن الكمال عزيز ومن طبع البشر الخطأ والنقصان.. ولكن لنجعل نصب أعيننا قوله - صلى الله عليه وسلم -:( كونوا عباد الله إخواناً لا تعادوا ولا تباغضوا سددوا وقاربوا) فبذا تعيش الأمة عيشة سعيدة وتنتزع منها الأنانية التي هي مفتاح لكل شر وهي المرتكز لكل عادة قبيحة.