أنعم الله جل وعلا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق وكمال النفس وجميل الخصال، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.. ثم أثنى عليه بما تحلى به من جميل الصفات وذلك في كتابه العزيز. قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم). ولما سئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (كان خلقه القرآن). قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق. لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه. وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه. فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته). ولو رجعنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقلبنا شيئاً من صفحاتها المشرقة المليئة بالإيمان والعدل والخير لوجدنا أمثلة شتى وعبراً كثيرة.. لأنه امتاز بكمال الخلق بما لا يحيط بوصفه. وكان من أثر ذلك ان القلوب فاضت بإجلاله وحبه، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره. والله لو شق قلبي في الهوى قطعاً وأبصر اللحظ رسماً في سويداه لكنت أنت الذي في لوحة كتبت ذكراه أو رسمت بالحب سيماه وبين أيدينا مثلا عظيماً من سيرته العطرة -عليه الصلاة والسلام- مع أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين.. مثلاً ترق له الأفئدة وتذرف منه العيون. وحق له ان يكتب بماء الذهب، وما كفاه قدراً، نعرضه حتى نعرف شيئاً من أخلاق النبوة العظيمة، لعل الله ان يمن علينا جميعاً باقتفاء أثره والسير على نهجه القويم: (عن جابر بن عبدالله وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قالا: فيما جاء في قول الله عز وجل {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} . قالا: لما نزلت، قال محمد صلى الله عليه وسلم: يا جبريل نفسي قد نعيت. قال جبريل عليه السلام: (الآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى).. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا ان ينادي بالصلاة جامعة. فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد المنبر فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم خطب خطبة. وجلت منها القلوب وبكت العيون. ثم قال: أيها الناس أي نبي كنت لكم؟ فقالوا: جزاك الله من نبي خيراً. فلقد كنت بنا كالأب الرحيم وكالأخ الناصح المشفق. أديت رسالات الله عز وجل وأبلغتنا وحيه ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فجزاك أفضل ما جازى نبياً عن أمته. فقال لهم: معاشر المسلمين أناشدكم بالله وحقي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني. فلم يقم إليه أحد. فناشدهم الثانية فلم يقم إليه أحد. فناشدهم الثالثة: معاشر المسلمين أناشدكم بالله وحقي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص من قبل القصاص في يوم القيامة. فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له عكاشة.. فتخطى المسلمين حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: فداك أبي وأمي لولاك انك ناشدتنا مرة بعد مرة ما كنت بالذي يقدم على شيء من هذا.. كنت معك في غزاة فلما فتح الله عز وجل علينا ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم كنا في الانصراف فحاذت ناقتي ناقتك فنزلت عن الناقة ودنوت منك لأقبل فخذك، فرفعت القضيب فضربت خاصرتي، ولا أدري أكان عمداً منك أم أردت ضرب الناقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيذك بجلال الله أن يتعمد رسول الله الضرب.. يا بلال انطلق إلى بيت فاطمة وائتني بالقضيب الممشوق. فخرج بلال من المسجد ويده على رأسه وهو ينادي.. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القصاص من نفسه.. فقرع الباب على فاطمة رضي الله عنها. فقال: يا بنت رسول الله ناوليني القضيب الممشوق، فقالت فاطمة: يا بلال وما يصنع أبي بالقضيب وليس هذا يوم حج ولا يوم غزوة. فقال: يا فاطمة ما أغفلك عما فيه أبوك. ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الدين ويفارق الدنيا ويعطي القصاص من نفسه. فقالت فاطمة رضي الله عنها: يا بلال ومن الذي تطيب نفسه ان يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا بلال فقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتص منهما ولا يدعانه يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخل بلال المسجد ودفع القضيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم القضيب إلى عكاشة، فلما نظر أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى ذلك فقاما وقالا: يا عكاشة هذا نحن بين يديك فاقتص منا، ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: امضي يا أبا بكر وأنت يا عمر فامض.. فقد عرف الله مكانكما ومقامكما. فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا عكاشة أنا في الحياة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تطيب نفسي ان يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ظهري وبطني اقتص مني بيدك واجلدني مائة ولا تقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقعد يا علي فقد عرف الله عز وجل مقامك ونيتك. وقام الحسن والحسين رضي الله عنهما فقالا: يا عكاشة ألا تعلم أنّا سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقصاص منا كالقصاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهما صلى الله عليه وسلم: اقعدا يا قرة عيني لا نسى الله لكما هذا المقام.. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عكاشة اضرب إن كنت ضارباً.. فقال عكاشة: يا رسول الله ضربتني وأنا حاسر عن بطني. فكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم وصاح المسلمون بالبكاء. وقالوا: أترى عكاشة ضارباً رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما نظر عكاشة إلى بياض بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يملك ان أكب عليه فقبل بطنه الشريف وهو يقول: فداء لك أبي وأمي.. فداء لك أبي وأمي.. ومن تطيق نفسه ان يقتص منك.. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إما عملاً وإما ان تعفو.. فقال: قد عفوت عنك رجاء ان يعفو الله عني في يوم القيامة. فقال النبي صلى الله عليه سلم: من أراد ان ينظر إلى رفيقي في الجنة فلينظر إلى هذا الشيخ. فقام المسلمون فجعلوا يقبلون ما بين عيني عكاشة ويقولون: طوباك، طوباك نلت الدرجات العلى ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمرض النبي صلى الله عليه وسلم من يومه، فكان مرضه ثمانية عشر يوماً يعوده الناس حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى).