- هناك أشخاص تظهر بصماتهم واضحة في المناصب التي شغلوها، فتحقق على أيديهم نتائج ملموسة وظاهرة للعيان، ولعل د. غازي القصيبي واحد من هؤلاء الذين أعطوا الوظيفة أكثر مما أعطتهم، فحفظ له الناس حقه في النجاح، كما حفظ له حقه في القدرة على تحقيق أهداف الوظيفة. عام 1398ه كان د. غازي في قمة عطائه الفكري، وكان وقتها ينظر إلى الامور نظرة واقعية مدفوعة بالرغبة إلى خدمة هذا الوطن، وهذا المجتمع، فأصدر كتابه الصغير حجما والكبير هدفاً (عن هذا وذاك)، وكان من ضمن ما تحدث عنه موضوع (الرشوقراطية) ، وقتها لم تكن الأحداث والتطورات بمثل ما هي عليه الآن، بل العكس كان الناس في قمة انشغالهم بتحقيق فرص النجاح وااستفادة من الطفرة التي مرت، ولم يكن يشغل بالهم هذا الهم الكبير الذي بدأ ينتشر في أوساط الأجهزة الحكومية والمتمثل في ضعف الأداء وزيادة المصروفات، وكانت الجوانب المتعلقة بالبطالة وشؤون العمل لا محل لها على الإطلاق، بل كانت هناك قرارات سامية وأوامر وزارية تلزم الخريج الجامعي والفني بضرورة العمل في الدولة مدة تعادل مدة الدراسة التي أمضاها في الجامعة أو الابتعاث، والالتزام بإعادة جميع ما صرف عليه أثناء مدة الدراسة. كان الدكتور غازي وقتها يتحدث عن (الرشوقراطية) بكل أبعادها، مشيراً إلى ملامح هذه الطبقة، وكيف يعملون؟ وكيف يحققون أهدافهم؟ ثم ما معنى السعادة عندهم؟ ومن قرأ هذا الكتاب تمنى لو كان د. غازي يشغل إحدى المناصب القيادية في الأجهزة التي تعنى بشؤون القوى العاملة، ليس من أجل اختباره!! فهو قادر على النجاح، وإنما لمعرفة ماذا يقول حين يتعامل مع هذه النوعية من (الرشوقراطيين) بحجمهم القائم!! إن تعيين معاليه في وزارة العمل يعني وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وليت ذلك حصل قبل عشر سنوات على الأقل، عندما كان - معاليه - يطرح همومه على صفحات الكتب، ويناقش تلك الأوهام وأضغاث الأحلام في ملحمة التنمية، حينما كان ينادي بأعلى صوته جهارا نهاراً، بأننا سندفع ثمن أوهامنا، أموالاً نفيسة، ووقتا ثميناً، ومصلحة غالية، وناقش تلك الأوهام وفندها واحداً واحداً، لقد توقفت وقتها عند حديثه عن الوهم الذي يقول: (إن التنمية يمكن أن تستورد من الخارج بحذافيرها أفكاراً ومعدات ومقاولين وفنيين وموظفين وعمالاً) ثم في تعقيبه على هذا الوهم بأنه نوع من غسل الأدمغة مما أفقدنا القدرة على أي ابتكار أو إبداع!! نعم لقد صدق توقعه، لكننا لم نعر ذلك أي اهتمام. لقد حل معاليه الآن على رأس جهاز يعنى بالدرجة الأولى بخدمة التنمية، إنه الجهاز الذي يتعامل مع القوى العاملة (مع البشر)، وأعتقد أن معاليه سيصطدم بعقبات لم تكن تخطر له على بال، وسيجد من الخلل والتراكمات ما ينوء بحمله أقوى الرجال، وإننا- والله -بقدر فرحتنا بتعيينه بهذا المنصب، وإدراكنا بحرص ولاة الأمر على خدمة برامج التنمية، إلا أننا مقدرون لكل جهد يقوم به معاليه في خدمة تحقيق أهدافه، وما سيعترض ذلك من عوائق. معالي الوزير: حتماً ستجد جيشا كثيراً من البيروقراطيين والرشوقراطيين والمنتفعين، وكذلك المتضررين، وقد رأينا على وجوه بعضهم آثار قدومك غير سارة، لأنهم يعرفون أنك ستحدث تغييراً مقصوداً في هياكل وأفراد وأساليب الوزارة، ومن شأن هذا التغيير أن يحسّن مستوى مخرجات الجهاز، استهدافاً لخدمة المواطن، وتمشياً مع الأهداف العليا المعتمدة!! لكنه بنفس الوقت ستؤثر على بعض المصالح الخاصة، وعلى مراكز النفوذ، واستغلال سلطة الوظيفة!!؟ ستجد يا معالي الوزير جماعات ضغط باسم المصلحة العامة، وباسم النظام، وباسم المواطنة، وبأسماء متعددة، للحيولة دون تنفيذ أي قرار إصلاحي يتعلق بضبط الإجراءات وسلامة الأداء، وعليك ألا تستغرب من مثل هذا - فأنت الخبير - لأن الرشوقراطيين والمنتفعين والفاسدين ستتضرر مصالحهم، وستضعف واجهتهم!!. إن المشكلة يا معالي الوزير ليست في عدم وجود الأنظمة العقابية، فلدينا ما يكفي للعقاب، وإنما المشكلة تتمثل في عدم تطبيق هذه الأنظمة بشكل ملائم، أو تطبيقها بشكل انتقامي، كما أن المشكلة تظهر في عدم تحصين المسؤولية نفسها من الفساد، مما أثر على نزاهتها، فأصبحت ضد المواطن بدلاً من كونها معه. إن الفساد يا معالي الوزير يتفاعل مع الظروف والمتغيرات المحيطة به ليجعلها مناخاً وبيئة مشجعة لنموه، وإن الرشوقراطيين الذين ستواجههم لا يرتبطون بمعيار الجريمة العادية بقدر ما يرتبطون بقواعد الأخلاق، إلى جوار قواعد اللعبة (الوظيفية)، ولهذا فإنك مهما بحثت عن أدلة لتجريمهم فلن تجد شيئاً، لأنهم أحرص الناس على الحياة، ولديهم من الإمكانات والنفوذ والحذر والحيطة ما يجعل أكبر أجهزة المتابعة عاجزة عن كشف ألاعيبهم، إنهم أكثر الناس فهماً للنظام وأعرف الناس بمضامينه، ولهذا يكونون قادرين على (التخريج) و(التأويل) و(الإشارات)، والمعرفة بالمصلحة العامة، وبالكواكب وبالنجوم وكل الأفلاك التي تدور وحتى الثابتة. معالي الوزير: إنك ستواجه موقفاً من نوع آخر، لأن الرشوقراطيين يعملون في نطاق ما يعرف ب(الإجراءات المجهولة) التي تمثل انتهاكات لم ولن يتم الكشف عنها، ولم تصل إليها أجهزة العدالة لأسباب نظامية وغير نظامية!! وإنك ستجد مزيداً من الصعوبة في مواجهة هذا الانحراف عندما ترى أن فاعلية الجزاء الإداري والجنائي أقل مما في تصورك!! وقد يزيد الأمر تعقيدا أنك ستكون أمام مخالفات لا يتم الكشف عنها فوراً، ومخالفات ترتكب كجزء من نمط الحياة العادية ونوعا من التعامل المقبول، وستظهر لك أشياء وأشياء ليست في الحسبان على الإطلاق، عندما ترى المواطن خاصة من لا حيلة له يتعامل مع هؤلاء الرشوقراطيين، ويتسامح معهم لدرجة اعتبار (الرشوة) إكرامية، أو تعبيرا مسبقاً عن الشكر والامتنان، أو تعويضاً عن المرتبات المتواضعة للموظفين، واعتبار الوساطة والمحسوبية واجباً على أصحاب المناصب وحقاً لأقربائهم وأصدقائهم يلامون إن لم يستجيبوا له، والنظر إلى التلاعب بالأنظمة والتعليمات والتحايل عليها كأمر طبيعي لا يثير السخط والاستياء،مع تطلع كثيرين ممن لم تتح لهم الفرصة إلى اغتنام أي ريع قد يدره عليهم موقع المسؤولية، حتى لو كان هذا الريع خيانة وسرقة!! معالي الوزير: إن نجاحاتك السابقة كلها في الجامعة، وفي سكك الحديد، وفي الصناعة وفي الصحة وفي الكهرباء وفي المياه ستقف متفرجة على ما سيواجهك في وزارة العمل، وإن كل الذين حفظوا لك حقك في النجاح - وهم كثير - وحتى الذين اختلفوا معك - وهم قليل - ممن لا اعتبار لهم، كل هؤلاء سيكونون معك في عملك الحالي لمعرفة ماذا ستعمل، وأي العقبات ستكون أكثر صعوبة، لأنهم يدركون أنك الآن في موقع تتقاطع فيه معظم إن لم تكن كل المصالح.. وهنا تكمن المشكلة!؟ عليك أن تدرك أن أخطر ممارسات (الرشوقراطيين) تتم عبر وسطاء مجهولين يلعبون الدور الرئيس في تسهيل مهمة الطرفين دون أن يعرف أحدهما الآخر، أو على الأقل دون أن يتقابلا وجهاً لوجه، وقد يكون للوسيط جهات متعددة للتعامل مع الأطراف المستفيدة، حتى أصبح هناك وكلاء محترفون يخدم بعضهم بعضاً!. معالي الوزير: إن هذا الجهاز المعني بشؤون (العمل) يعتبرمن أقدم الأجهزة الحكومية في التأسيس، وقد تعاقب عليه عدد من المسؤولين الذين عملوا ما في وسعهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يجعلوه في مصاف الأجهزة القوية القادرة على تحقيق الأهداف!! أتدري يا معالي الوزير ما السبب؟ إن ذلك يرجع في الأساس إلى ضعف هيكله التنظيمي، هذا الهيكل المتمثل في طغيان الجانب الإداري على الجانب الفني، حتى أصبح الجزء المخصص للنشاط الأساسي لا يمثل سوى 10%، فانقلبت المعادلة، وضاعت كل الجهود، وانعدمت الشفافية! كيف يطلب من جهاز أن يحقق أهداف السعودة، وأن يكافح البطالة، وهو لا يملك مركزاً للدراسات والأبحاث، ولا حتى جهازا للأحصاء؟ ولا إدارة مستقلة للعمل الميداني!! كيف نرتقي بمستوى الأداء من خلال جهاز أكثر العاملين فيه على بند الأجور، وبرواتب مقطوعة لا تتجاوز الألفي ريال؟ أين الوظائف المتخصصة في شؤون القوى العاملة، وفي شؤون العمل ومجالاته؟ كم حجم الابتعاث والتدريب لوظائف العمل؟ إننا نظلم مكاتب العمل ونقسو عليها حينما نطالبها بأكثر من قدرتها، ونحن نعلم أن العاملين فيها مجتهدون لا حوافز لهم، ولا مكافآت ولا بدلات ومعظمهم على وظائف متدنية، وقد مضى على بعضهم سنوات طويلة دون ترقية، ومنهم من يقوم بعمله الميداني على سيارته الخاصة، وبجهد خاص منه دون أن نوفر له الوسيلة أو حتى الحماية. إن إدراك المصالح الذاتية للموظفين جزء رئيس من محاولة فهم أسباب التواضع في الأداء، لقد فات الزمن الذي نتصور فيه أن الموظف (آلة) لا يفكر إلا في صالح العمل، دون اهتمام بمصالحه الذاتية. إن وزارة العمل بحاجة ماسة الآن إلى إعادة هيكلها التنظيمي بما يجعل النشاط الأساسي للجهاز هو المهم في هذا الهيكل، وإن موظفي هذه الوزارة بحاجة أكثر من غيرهم إلى دعمهم ورفع مستوياتهم الوظيفية بما يتناسب ومهامهم الموكلة إليهم، ولابد من إيجاد التخصص المناسب لكل إدارة داخل الوزارة، والاهتمام بشكل كبير بأوضاع هؤلاء الموظفين الذين يعانون فعلاً من ضعف الهيكل التنظيمي، بما يمنحهم فرصة للترقية والحصول على البدلات والمكافآت بما يوازي حجم أعمالهم، ويقطع خط الرشوقراطية عليهم، ويحصنهم من الإغراءات التي ترمى عليها ليل نهار. علينا أن ندرك أننا نحن الذين فتحنا مجال التوسع للموظفين (الرشوقراطيين) من خلال إهمال الجانب التطويري للهيكل التنظيمي، وأن ندرك أن هذه الوزارة قادرة على تحقيق أهدافها وتطوير مستوى القوى العاملة، ورفع كفاءة الأداء، وفرض المواطنة السعودية القادرة على تحقيق برامج التنمية كما تريدها الدولة وينشدها المواطن ويتطلع إليها المسؤول. فأنت لها يا دكتور غازي .. أعانك الله ووفقك في أداء مهمتك. إشارة: إن مصطلح (الرشوقراطية) لايعني انطباقه على كل العاملين في هذا الجهاز بل نعرف أن الأغلب منهم يتمتعون بنزاهة وظيفية عالية، لكن وجود فئة قليلة وقليلة جداً من هذه النوعية التي قد تظهر هو الذي يوجد الخلل.