في مساء يوم الأربعاء التاسع من شهر ربيع الأول لعام 1425ه وفي مدينة الرياض فقد الوطن أحد ابرز رجالاته في مجال العمل الخيري والتنموي وهو شيخنا وحبيبنا أبو عبدالله محمد العبدالله الجميح الإنسان العصامي الجاد، الدقيق في عمله المنظم في وقته الوفي لوطنه الواصل لذوي قرباه وجماعته، رجل البر والإحسان رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته. سيرته وأعماله ولد الشيخ محمد بن عبدالله بن عبدالعزيز الجميح في شقراء سنة 1333ه-1915م وتعلم في كتاتيبها، وبرزت مواهبه - كما ذكر أستاذنا عبدالرحمن العبد الكريم - منذ صباه فباشر البيع والشراء، ولما بلغ الخامسة عشرة قرر أخوه الأكبر عبدالعزيز اصطحابه معه إلى الأحساء بتوجيه من والدهما عبدالله حيث يقيم عمهما إبراهيم - رحم الله الجميع - فسافر الأخوان على الرواحل (الإبل) وبقيا في الأحساء مدة من الزمن اكتسب خلالها محمداً الخبرة في التجارة ثم عاد إلى شقراء وتزوج ابنة عمه عبدالرحمن رحمه الله.. ولما قدم وزير مالية الملك عبدالعزيز الشيخ عبدالله السليمان الحمدان إلى شقراء في طريقه من مكة إلى الرياض نزل في منزل عبدالرحمن السبيعي مأمور بيت المال في شقراء وتولت ضيافته أم السبيعي الشهيرة بكرمها وعنايتها بالضيوف واستعانت بمحمد الجميح - لصلة النسب بينهما- في مباشرة ضيافة الوزير، فأدى الواجب ونال إعجاب الوزير بجده ودقته وطلب منه الذهاب معه إلى الرياض، فرافقه، وبدأ بتكليفه بتأمين احتياجات مالية الرياض حتى توطدت الثقة به أسس مع شقيقه عبدالعزيز رحمه الله ( شركة عبدالعزيز ومحمد عبدالله الجميح) عام 1355ه-1936م والتي أصبحت ذات فروع متعددة في بلادنا في الرياضوجدة والدمام، ومكةالمكرمة، والمدينة المنورة، وبريدة، وتبوك، وحائل، وسكاكا، وشقراء، وساجر، ومدناً أخرى. وللشيخ محمد رحمه الله وأبناء أخيه المشائخ محمد وعبدالرحمن وحمد نظام دقيق يوائم بين العمل في الشركة وبين اللقاءات الاجتماعية اليومية في منزلهم فبيت آل الجميح مفتوح يومياً طيلة العام للزوار من الاقارب والجماعة والاصدقاء والمعارف وضيوف البلد حيث يذهب آل الجميح إلى مقر الشركة صباحاً إلى فترة الظهيرة، ثم يؤدون الصلاة في المكتب ويعودون إلى منزلهم، وبعد العصر يزاولون العمل في المكتب، وتؤدي صلاة المغرب هناك، وبعد العشاء يفتح المجلس للضيوف ويتم تناول العشاء في حدود التاسعة والنصف، وقد استمر هذا النظام لسنوات طويلة في غاية الانضباط والدقة. أبناء أخيه عبدالعزيز ومن دعائم نجاح شركة الجميح - بعد الله - وقوف أبناء الشيخ عبدالعزيز رحمه الله (محمد وعبدالرحمن وحمد) إلى جانب عملهم وبرهم بوالدهم وعمهم منذ وفاة والدهم رحمه الله عام 1376ه، حين اضطلعوا بمهام كبيرة في الشركة فكانوا نعم المعين والناصر، ولا يقومون بعمل إلا بمشورة عمهم في صورة أبوية حميمة نسأل الله أن تستمر في أبناء هذه العائلة المباركة الكريمة، يقول الأستاذ عبدالرزاق الإبراهيم مدير مكتب رئيس شركة الجميح: (إن الترابط والمحبة والثقة التي جمعت أفراد هذه الاسرة، عم وأبناء أخيه وأبنائهم يسكنون في بيت واحد يجلسون يومياً في المساء لاستقبال ضيوفهم وأصدقائهم ويجتمعون جميعاً على مائدة واحدة صفات نادرة وراء هذا النجاح). ويقول أستاذنا الأديب عبدالكريم الجهيمان: (إن علاقتي بهذه الأسرة الكريمة قديمة جداً تناهز السبعين عاماً، ولذلك فإنني أكاد اعتبر نفسي فرداً منها، فقد كنت في السبعينيات والثمانينيات إذا سافرت إلى جدة أو الظهران لا أسكن إلا لديهم.. لقد كنت أزور هذه الأسرة في بعض الأوقات ليلاً فأجد بعضهم منكباً على تقييد بعض المعاملات وبعض الصفقات التجارية المنعقدة منهم ولهم في الدفاتر التي بين أيديهم مع استقبال من يحضر إليهم بكل حفاوة من جماعتهم ومحبيهم والمتعاملين معهم في مختلف الشؤون التجارية، ولا تحول تجارتهم عن الحفاوة بمحبيهم واستقبالهم خير الاستقبال وقد توفي الشيخ عبدالعزيز الجميح الأخ الأكبر لمحمد في منتصف السبعينيات ولكنه خلف شباباً نجباء وهم: محمد وعبدالرحمن وحمد الذين كانوا ومازالوا عوناً وسنداً لعمهم محمد). أعماله الخيرية لأسرة آل الجميح وعميدها الشيخ محمد وأبناء أخيه باع طويل في العمل الخيري والإنساني في بلدتهم شقراء وفي أنحاء المملكة والعالم الإسلامي، يقول شيخنا عبدالرحمن بن محمد السدحان وهو في طليعة المهتمين بتاريخ وتراث بلدتنا شقراء: ( لا أعلم مشروع خير في شقراء إلا ولعائلة الجميح فيه أياد بيضاء إن لم يكن انشئ كله على نفقة الجميح وسأذكر مشروع خير واحد كمثال على عشرات المشروعات التي تبنتها عائلة الجميح، أنه مشروع تفطير الصوام هذا المشروع الخيري العملاق مضى عليه أكثر من سبعين سنة ولا يزال قائماً وسيظل قائماً - إن شاء الله - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وحينما رحل آل الجميح من شقراء بعد توسع تجارتهم وتفرق أبناء تلك العائلة في كبريات مدن المملكة لإدارة أعمالهم التجارية لم ينسوا بلدهم ولم ينفضوا أيديهم من تقوية مشروعات الخير فيها أو يغلقونها، إنما الذي حدث بالنسبة لمشروع تفطير الصوام التوسع الهائل حيث أصبح يقدم وجبة الفطور والعشاء والسحور لأكثر من ألفي مسلم ذكر، أما النساء والعجزة فإن الوجبات يبعثها القائمون على المشروع لهم في بيوتهم، أكثر من مائتي وخمسين بيتاً تصلهم وجبات الفطور والعشاء والسحور، ويشرف على هذا المشروع الأخ الفاضل عبدالله بن إبراهيم البخيتي وأولاده علاوة على هذا تقام للصائمين وليمة كبرى يوم العيد وتوزع عليهم كسوة العيد من القماش وأحياناً آلاف النقود). ويشير زميلنا العزيز الدكتور محمد بن خالد الفاضل إلى مشروعات خيرية أخرى لآل الجميح في شقراء وفي طليعتها قيامهم قبل بضع وأربعين سنة بحفر عدد من الآبار الارتوازية في منطقة الرحبة غرب شقراء وتدفق الماء عذباً زلالاً واصبح مقصد الحاضرة والبادية وقيام آل الجميح بتمديد الماء العذب إلى مساجد شقراء وأحيائها وبيوتها، فكانت شقراء من أوائل المدن الصغيرة التي دخلها الماء... وقد كتب الله لمبرة الماء الجميحية هذه الاستمرار سنين طويلة وهم يقومون برعايتها وصيانة معداتها ومضخاتها وسائر تمديداتها وحفر الآبار واحداً تلو الآخر حتى لا تنقطع عن الناس إلى أن بدأ مشروع الماء الحكومي، ومن المبرات الجميحية الأخرى مشروع الكهرباء للمساجد والشوارع والأحياء. هذا عن شقراء ، أما عن باقي مدن المملكة فلشركة الجميح إسهامات مشكورة في تطوير وتجميل المدن، والتبرع لإصلاح وترميم المدارس وإنشاء مراكز وجمعيات رعاية المعوقين، والتبرع لمجالات إقامة مساكن الفقراء والمحتاجين، ودور الحضانة ومراكز التدريب، وتيسير الزواج للشباب، ودعم مراكز الأبحاث الطبية والمستشفيات، وإنشاء مراكز غسيل الكلى ولم تتوقف أعمال الخير لآل جميح عند حدود بلادنا بل كما يقول الدكتور الداعية إبراهيم أبو عباة حفظه الله (تجاوزت حدود البلاد إلى كثير من البلاد الإسلامية فهنا مسجد وهناك مدرسة أو بئر أو مركز إسلامي وهذه مساعدات لأيتام أو فقراء هنا أو هناك إنفاق متواصل ولكنه مدروس بعناية لا يعطي إلا للمستحق أو لجهة معروفة وموثوقة). إسهامه في الحركة الاقتصادية والتنموية بدأ الشيخ محمد مع أخيه الشيخ عبدالعزيز- رحمهما الله - بداية عصامية واكبت بواكير النهضة المباركة في بلادنا التي أرسى دعائمها بعون الله عبدالعزيز رحمه الله، فمنذ إنشاء الشركة عام 1355ه-1936م إلى يومنا الحاضر تمكنت من الانتشار والتوسع والمشاركة في الحركة الاقتصادية والتنموية بشكل فاعل، ويشير الشيخ الوجيه عبدالرحمن الجريسي رئيس مجلس إدراة الغرفة التجارية الصناعية بالرياض إلى تعدد نشاطات شركة الجميح (فمن نشاط السيارات إلى المعدات الثقيلة إلى صناعة الزيوت والشحوم إلى صناعة الأغذية والمشروبات الغازية إلى غير ذلك، وقد كان صديقنا العزيز محمد الجميح محل ثقة ولاة الأمر والوطن به، حيث أسهم بماله وجهده في تطوير بلده من خلال اختياره مجالات استثمارية غاية في الحيوية كان لها أثرها الفاعل في تعزيز التنمية التي تشهدها المملكة اليوم). والشيخ محمد - رحمه الله - عضو في العديد من الشركات الحيوية، فهو عضو مؤسس لشركة كهرباء الرياض ورئيس مجلس الإدارة لمدة عشر سنوات، وعضو مؤسس لشركة اسمنت اليمامة السعودية وعضو مؤسس لمجلس إدارة شركة الغاز والتصنيع الأهلية، وعضو مجلس إدارة الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس، وعضو مؤسس لمجلس إدارة الشركة الوطنية للتنمية الزراعية (نادك) ، وعضو جمعية البر بالرياض، إلى غير ذلك من الشركات والمؤسسات الاقتصادية. ويلخص الأستاذ عبدالعزيز بن حمد العيسى رئيس مجلس إدارة شركة حمد العيسى أسلوب الجميح الاقتصادي بقوله (إن نموذجاً مثل محمد بن عبدالله الجميح يبقى شاهقاً في ذاكرتنا بحكم العديد من النقاط التي يمكن تلخيصها في عصاميته التي تشكل قدوة لشباب اليوم في الصبر والتفاني والإخلاص، وثانياً توافر الأمانة والثقة عند الناس في رجل الاقتصاد والتعامل مع المسائل التجارية عموماً لأن الثقة هي رأس المال الاساسي لتطوير الاعمال التجارية). الأوسمة والجوائز ومع هذه الأعمال والإنجازات الوطنية والعالمية سارعت الدول والحكومات إلى منح الشيخ محمد الجميح العديد من الأوسمة وشهادات التقدير، وفي مقدمتها وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الاولى قلده إياه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز في مهرجان الجنادرية 1421ه ووسام الفارس من الحكومة الإيطالية، ووسام الاستحقاق من رئيس جمهورية المانيا الاتحادية، ووسام القائد للامبراطورية من الملكة اليزابيت الثانية، وشهادة تقدير من وزارة التجارة الأمريكية وميدالية السلام عبر التجارة من الحكومة الأمريكية. تكريم ووداع في التاسع والعشرين من شهر شوال لعام 1423ه احتفل أهالي شقراء بتكريم الشيخ محمد الجميح رحمه الله وأبناء أخيه في أمسية وفاء مشهودة لابن شقراء البار، وكأن الجميح على موعد مع التكريم والوداع لمسيرة طويلة حافلة بالانجاز، وقد شعر جميع الأهالي في حينها بلذة الوفاء لأهل العطاء والوفاء آل الجميح، وقد بادل الجميح الوفاء بوفاء أجمل وهو تبنيهم مشروع (جائزة الجميح للتفوق الدراسي والعلمي) وتم أول احتفال للجائزة في شهر ربيع الأول لعام 1424ه بحضور معالي وزير التربية والتعليم الدكتور محمد الرشيد، وبجهود مباركة من سعادة الأستاذ عبدالرحمن العيد مدير التربية والتعليم بمحافظة شقراء وزملائه الكرام وفقهم الله. وقفة أخيرة في ختام هذا المقال أسأل الله المغفرة والرحمة والرضوان لشيخنا محمد الجميح وأن يبارك في ذريته وأبناء أخيه وذريتهم وأن يوفقهم الى إكمال مسيرة العطاء والتلاحم التي هي أمانة في عنق كل فرد من آل الجميح ذكوراً وإناثاً، لأن مكتسبات الأسرة ثروة للوطن، وأقترح بهذه المناسبة على الأسرة الكريمة إنشاء وقف خيري في الرياض أو شقراء يحمل اسم المرحومين عبدالعزيز ومحمد العبدالله الجميح تخليداً لذكراهما العطرة - رحمهما الله.